لو أحصى أي مرصد إعلامي ما كُتب في العالم العربي عن الفساد خلال السنوات الماضية لوجد أنه حصة قطيع من الضباع، لكي لا نقول إنه حصة الأسد! ورغم أن الفساد ككل الظواهر السلبية متعدد الرؤوس، إلّا أن ما يمر به العرب من ظروف سياسية واقتصادية بالتحديد، أبقى مساحة من الفساد في نطاق المسكوت عنه، وهي باختصار مساحة الفساد الثقافي، التي يتطلب رصدها حواسيب من طراز آخر، لأن هذا الفساد لا يُختزل في إحصاءات وأرقام، بقدر ما هو أنماط تفكير وعادات ذهنية مزمنة، إضافة إلى موروث الرقابة خصوصاً في دول ذات نظم شبه شمولية، حولت الثقافة إلى تابع للإعلام، وحصرتها في نطاق إيديولوجي وحزبي ضيق. وإذا كان الفساد ببعديه السياسي والاقتصادي قد تعرض للمساءلة على اختلاف مستوياتها، فإن الفساد الثقافي ذا الجذر التربوي بقي خارج المساءلة، بسبب غياب التوصيف الدقيق. ويجب الاعتراف، بلا أية مواربة، بأن النخب الثقافية في العالم العربي استبدلت، في بعض الأحيان، المعايير المعرفية بمقايضات تتأسس على ما يُسمى في ثقافتنا الشعبية تبادل الَحكّ، وقد يستغرق الفساد المزدوج في السياسة والاقتصاد زمناً يطول قبل أن يفطن المعنيون إلى ذلك الفساد الذي يعشش في النخاع، وليس فقط في اللحم والعظم. والمسألة أبعد من حكاية تعليق الجرس، فثمة أجراس عديدة عُلقت، ولم تكف عن الرنين، لكنها لم تصل إلى المسامع، إمّا لانشغال الناس بما يعتقدون أنه عاجل، أو لأن الثقافة في مراحل التحول القلقة والرمادية تختفي خلف واجهات أخرى! وحقيقة الأمر، أن الفساد الثقافي هو جذر الفساد كله، لأن الثقافة بمعناها الشامل والمرادف للحضارة، هي الملح الذي إذا فسد، لا يُرتجى بعده صلاح أي شيء. ويخطئ من يتصور أن معالجة البثور المتقرحة والمتقيحة على الجلد بمعزل عن جذورها في الدورة الدموية هي أمر ممكن. وإلى أن تأزف لحظة المساءلة حول الفساد الثقافي في واقعنا العربي، سنشهد المزيد من تلك البثور والتقرحات!
مشاركة :