ينتمي هذا الرهان رغم أنه سياسي إلى تلك المساحة المهملة من حياتنا والتي يتصور البعض أننا لا نملك من فائض الرفاهية ما يجعلنا نتوقف عندها. إنها مساحة علم النفس السياسي التي أصبحت في الصميم من الاستراتيجيات المعاصرة، وما يسمى الحرب النفسية من خلال توجيه الإعلام هو من ثمار هذه الاستراتيجية. وقد يكون من التكرار التذكير برهانات أعداء العرب وفي مقدمتها الرهان على تآكلهم بدلاً من تكاملهم وعلى تحويلهم إلى طوائف متوازية بدلاً من الأطياف المتعايشة. لكن الرهان الآخر المسكوت عنه هو ما يمكن تسميته الإرهاق العاطفي والذي ينشأ عن التوتير المتصاعد أو عن حالة الترقب والانتظار التي لا تلوح لها نهاية. فلسطينياً، كان الرهان الصهيوني على إبقاء اللاجئين عدة عقود في حالة انتظار. فمن خلعوا من تراب وطنهم قبل أكثر من ستة عقود قيل لهم إنها بضعة أسابيع ثم يعودون، لهذا احتفظ الكثير منهم بمفاتيح بيوتهم والتي لم يتوقعوا عام 1948 أن صدأ الزمن سوف يغير لونها، فالإنسان يمتلك طاقة محددة للانتظار، ما إن تتجاوز المعقول حتى تتحول إلى عوامل للإحباط والتيئيس وانسداد الآفاق، وهذا يحدث معنا كبشر وعلى نحو فردي، بحيث نفقد بمرور الوقت حماسنا وننصرف إلى ما هو إجرائي وطارئ بدلاً من مواصلة الانتظار بحافز استراتيجي. وقد كتبت دراسات كثيرة في هذا المجال لكن بعض الجيوش والمؤسسات العسكرية سخرت تلك الدراسات لأهدافها، خصوصاً في الدولة العبرية، حيث راهن الجيل الصهيوني المؤسس على أن الوقت يكفي لغسل الذاكرة الفلسطينية، لأن الجيلين الأول والثاني بعد النكبة يغيبهما الموت، والأجيال اللاحقة التي تولد في المنافي لا تتذكر بقدر ما تتخيل. لكن هذا الرهان أضيف إلى قائمة الرهانات الخاسرة، لأن الجيل العربي الراهن في فلسطين ولد قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، ولم يعش النكبة أو الهزيمة في عامي 1948 و1967، لكنه رغم كل محاولات إغرائه بالتأقلم مع الاحتلال تضاعفت لديه المناعة وقبض على الجمر حين قرر أن يبقى كالشوكة في حلق الاحتلال. وما نخشاه هو استمرار الرهان على الإبهاظ النفسي والعاطفي وهي مرحلة تعقب الإرهاق من فرط التوتير، تلك مسألة تستحق أن نتأملها.
مشاركة :