سأخون وطني

  • 8/23/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

- العبارة أعلاه هي عنوان كتاب الأديب الراحل محمد الماغوط، الرجل الذي جعل من الخيانة شرفاً يتمناه المخلصون والأوفياء. وتتلخص هذه الخيانة التي جعلته يعيش حياته بطولها وعرضها بعيداً عن عقدة الانتماء، بأنه أخذ نصيبه من وطنه حينما كان طفلاً يحبو على عتبات منزل والديه، فقد كان يجمع التراب في كفيه الصغيرتين بعبث طفولي ثم يبتلعه دفعة واحدة، ثم يلعق أصابعه بسرعة واستعجال قبل أن تنفض والدته ما تبقى من حبات الرمل من كفيه. لم يكن يدرك أنه بفعلته تلك قد ابتلع حصته من الوطن على أتم وجه، ليتحول فيما بعد إلى متشرد يسكن الوطن في أعماقه، منذ تلك اللحظة التي قرر فيها أن يحتفظ بجزء من وطنه في غياهب جسده الصغير!. لاحقاً حينما كبر ذلك الطفل ورأى الأرض تئن تحت وطأة الفساد والاستبداد، حمد الله كثيراً لأنه التهم حصته باكراً جداً قبل أن يعي معنى الانتماء إلى الوطن، وإلا لكان في عداد المعذبين في الأرض، الذين حال الفساد والقمع بينهم وبين أوطانهم، ليجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاصطفاف خلف المغادرين من ديارهم إلى الأبد حيث مراتع العدل والحرية، بعيداً عن حدود أوطانهم التي كلما كبروا ضاقت بهم وكأنها مقبرة لم تعد تتسع لمزيد من الجثث، فقدرهم أن الريح استكثرت أن تترك لهم نصيبا من تراب أوطانهم عند عتبات منازلهم كي يكبر الوطن في أعماقهم لا أن يضيق، رغم مساحاته الشاسعة!. يدرك الجلاد أنه كلما أوغل سياطه في أجساد ضحاياه، كلما زاد تعلقهم وتمسكهم بوطنهم الذي يختزل ذكرياتهم وطموحاتهم وأحلامهم منذ الصغر، حتى لو هربوا خلسة خارج حدوده الجغرافية، فلن يكون بوسعهم تجاوز حدوده المترامية الأطراف في أعماقهم، فحيثما يولون وجوههم سيجدونه يغمرهم بالذكريات والحنين إلى طفولتهم، وهذا ما يزيد أولئك الجلادين حمقاً ورعونة في التعذيب الجسدي والمعنوي لضحاياهم. إن المسافة بين الوطن والانتماء أصبحت شاسعة، ولا سبيل بأن تلتقي الضفتان إلا بردم نهر الفساد المتدفق بغزارة دون انقطاع، وهذا يتطلب المغامرة والجنون، وهما صفتان متلازمتان في أرواح الثائرين الأوفياء والذين غالبا ما تبوء مغامراتهم بالفشل الذريع؛ ذلك لأن العاطفة في مثل هذه الحالات يصعُب ترويضها أو على الأقل كبح جماحها بالقدر الذي يجعل أصحابها بمأمن عن المُساءلة والتخوين، وهو قدرٌ كُتب على أمة العرب وحدها دون سائر الأمم الأخرى، ربما لأن إرثنا من الشعر والخطابة تميز منذ نشأته بالطابع الثوري، مما سبب لبساً في العلاقة بين العرب وأوطانهم لدرجة تصل إلى حد التناقض والارتباك! فمهما تعرض العربي للملاحقة والاضطهاد والإقصاء في وطنه، تجده في خلواته يستدعي من الذاكرة مراتع الصبا والطفولة بشيء من الحنين للماضي، كي يغسل روحه المتعبة في اغترابها ويجدد أمل العودة من جديد. بعد كل معركة يكسبها الفاسدون في وطني، يتسلل اليأس إلى روحي وتنتابني رغبة عارمة بالهرب منه؛ لأن العجز عن فعل أي شيء لإنقاذه من براثن الفساد قد يؤدي في أحيان كثيرة إلى الانتحار المعنوي، وهذا ما يسبب ليَ القلق المستمر، فالمرء حينما يشعر بهزيمته من الداخل لا يتوانى عن المجازفة بحياته في أول معركة يخوضها دفاعاً عن وطنه. أن يخون المرء وطنه على طريقة الماغوط، لهي من أنبل الخيانات التي يرتكبها البشر، خيانة يتمناها كل مخلص لأنها نعمة لا يحظى بها سوى المحظوظين من البشر، فهي بمنزلة إلهام من الله بأن يلتهموا نصيبهم من الوطن في الصغر كي يعيشوا أحراراً بعيداً عن عقدة الانتماء إلى الأرض، فالوطن يرتحل حيث ما يرتحلون.

مشاركة :