تعد اللغات – في المقام الأول – وسائل تواصل بين البشر، بمعنى أنه متى ما تأسس الاتصال بين الأطراف وتبادلوا الرسائل بسلاسة فيما بينهم فقد أدت اللغة الأمانة! لكن، هل اقتصرت وظيفتها على هذا المقام؟ إن المتأمل في واقع العديد من الحضارات عبر التاريخ يجد أن البعض منها برعت في تطوير هذه الوسيلة وأخذها إلى أبعد من ذلك، إذ لم يقتصر دورها على التواصل فحسب، بل تعدى ذلك إلى الهيمنة المعرفية والثقافية والاقتصادية، بل وربما السياسية والعسكرية أيضا. فعلى سبيل المثال بسطت اللغة العربية نفوذها العلمي والخطابي في حقبة ما، فيما عزز الإسبان نفوذهم العسكري خلال أخرى وقاموا بنشر لغتهم وثقافتهم حتى وصلوا إلى أمريكا الجنوبية، واليوم تهيمن اللغة الإنجليزية (تقريبا) على معظم الأصعدة والمشاهد، إلا أن هذه الهيمنة لم تستلق على أريكتها دون مقاومة من القوى والحضارات الأخرى كالفرنسية والإسبانية والألمانية عبر شتى الوسائل وعلى مختلف المنصات، بدءًا بسعي تلك القوى والحضارات نحو الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية داخل الأوطان، وانتهاءً بمحاولات تصديرها عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الفنية. لما آمنت القوى والحضارات المقاومة أن القضية لم تعد قضية لغة للتواصل فحسب، بل قضية مبدأ، قضية هوية، قضية وجود، قضية تاريخ ومستقبل أمة - أيقنت أن البقاء تحت وطأة الهيمنة اللغوية قد يكون المسمار الأخير في نعش السيادة اللغوية، وقد يكون الحلقة الأخيرة من مسلسل السيادة الثقافية لقواها وحضاراتها، حيث أن تبعات الهيمنة اللغوية لا تقف عند حد بسط النفوذ اللغوي، بل تتعدى ذلك إلى تغييب اللغة المهيمن عليها وثقافتها عن المشهد كليا. الإشكالية ليست هنا فحسب، بل قد تتعدى ذلك ليصبح هذا التغييب إلى الأبد، بمعنى أنه حين تبسط لغة هيمنتها على مجتمع ما فإن لغة ذلك المجتمع وإرثه الثقافي يكونان عرضة للتغييب الأبدي؛ الأمر الذي دفع آلاف اللغات عبر التاريخ نحو حتفها، ولم يبق اليوم منها سوى اسمها. تلك النهاية الحزينة لم تكن نهاية اللغة وحدها، فقدر الثقافة أن تكون ملتصقة بها أينما ذهبت، إن عاشت اللغة عاشت ثقافتها معها، وإن ماتت اللغة ماتت معها. وبموت هذا الكم الهائل من اللغات، الله وحده أعلم بمقدار الإرث الثقافي الذي ظلت البشرية محرومة منه حتى يومنا هذا. أما اللغات التي لا تزال تصارع من أجل البقاء فلم يسلم أبناؤها من بطش الهيمنة اللغوية. لقد وصل بنا الحال اليوم إلى أن يحكم علينا الآخرون – في كثير من الأمور – من خلال اتقاننا للغة المهيمنة، حتى أصبحت العقبة الأولى – بل وربما الأخيرة! - التي يواجهها أحدنا حين يسعى إلى الحصول على فرصة دراسية أو وظيفية هي عقبة اللغة، فإذا اجتازها هان ما بعدها، وإن لم يجتزها تضاءلت فرصته، حتى لو كان متميزا في أمور أخرى أكثر تعقيدا من اختبارات اللغة القياسية! لقد نتج عن التخوف من هذه العقبة تحول ثقافي مريب بدأت ملامحه تظهر قبل سنوات، حتى أصبحنا - وربما بدأنا نعتاد على أن - نشاهد أطفالا سعوديين يخاطبون آباء سعوديين داخل السعودية باللغة الإنجليزية، بينما شهدت - كما شهد الكثيرون غيري - فترة كانت فيها مشاهدة فتى يتحدث باللغة الإنجليزية مع شخص أجنبي شيء عجاب! شخصيا لم أجد مبررا لهذا السلوك المدعوم بتفشي موضة المدارس العالمية. فعلى الرغم من إيماني الشديد بقضية العلاقة الوطيدة بين اللغة والثقافة، وأن اكتساب لغة ما يصعب تحقيقه دون الإلمام بثقافة تلك اللغة، إلا أنني أرفض الركض الأعمى خلف هذه الموضة، مالم يكن الدافع وراء ذلك ليس اكتساب لغة أجنبية فحسب، بل اكتساب علوم ومعارف ومهارات لا يتسنّ اكتسابها في المدارس الأخرى. ليس إعجازا أن يصبح طفل سعودي قادرا على أن "يرطن" باللغة الإنجليزية، إذ لن تصنع منه تلك "الرطانة" – وحدها – يوما ما شخصا متميزا، وفي حال بلغ الأمر إلى أن يضطر أبوان سعوديان إلى التعاقد مع معلم لغة عربية لأبنائهما فقل على اللغة السلام! وعلى سبيل المقارنة، لم تتسن للكثيرين من أبناء الجيل الذي أنتمي إليه فرصة البدء في تعلم اللغة الإنجليزية قبل سن الحادية عشرة، كما لم يكن هناك قدر كبير من الكتب أو القواميس الإلكترونية أو القنوات الفضائية أو الهواتف الذكية بتطبيقاتها المتنوعة لدعم عملية التعلم، ومع ذلك استطاع الكثيرون من أبناء ذلك الجيل تعلم اللغة الإنجليزية وإتقانها، وتمكنوا من تحقيق تطلعاتهم اللغوية وغير اللغوية دون الإضرار باللغة العربية ومكتسباتها الثقافية. اللغة مكوّن ثقافي رئيس، يتأثر بواقع الحضارة ويؤثر فيه. نعم، من الضروري أن يجيد أبناء اليوم اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات المؤثرة، لكن ليس على حساب اللغة الأم، ولا على حساب الثقافة المحلية وإرثها التاريخي، حتى لا تتضرر بقية مكونات الثقافة، فمعارك اللغات شرسة وحروب الثقافات ضروس، والخروج منهما بأقل الخسائر بات مطلبا وضرورة. كونوا بخير ،،،
مشاركة :