في شهر مايو 1952م كانت هيلين كيلر تزور القاهرة، وقد طلبت أن تلتقي بـطه حسين، وكانت تقول عن هذا اللقاء المرتقب «سيكون لقائي بـطه حسين أجمل يوم في حياتي»، فتروي (سوزان) زوجة عميد الأدب العربي في كتابها (معك) «.. وكنا نشعر بانفعال شديد حين ذهبنا، طه ومؤنس (ابن طه) وأنا، إلى فندق سميراميس، ونتساءل كيف سيدور الحديث مع امرأة لم تكن عمياء فقط وإنما صماء بكماء أيضا. والحق أن ذلك لم يكن صعبا على نحو ما انتظرنا، أولا لأن هذه المرأة كانت بشوشة بقدر ما كانت لطيفة، كما كانت ذكية إلى حد خارق، ثم لأنه كان بالقرب منها سكرتيرة مدهشة كانت تسمى فيما أذكر (مس طومسون). لقد كانت تقوم بكل ما يمكن لإخلاص لبق مستنير أن يقوم به، كانت تعرف بالطبع لغة الصم والبكم في مثل هذه الحالة الخاصة إلى حد كبير، كانت تنقل الأسئلة والأجوبة بسرعة من طرف إلى آخر، وذلك بضغطة تقوم بها على حنجرة هيلين، أو بمس قبضتها، تحدث مؤنس كثيرا، وكان مبهورا، وفي الغداة، ألقت هيلين كيلر خطبة في صالة اختيرت بقصد ألا تكون واسعة.. والتقطت لنا صور معها، بدت فيها هيلين كيلر من المرح بحيث لا أسمح لنفسي أن أنظر إليها بحزن..» ص198 ــ 199. والمعروف أن هيلين كيلر المولودة في أمريكا عام 1880م، وفي الثانية من عمرها أصيبت بمرض أفقدها السمع والبصر، ولكونها لا تسمع فقد أصبحت لا تتكلم، وقد وفقت بمعلمة (سوليفان) بمعهد العميان التي تولت تعليمها وهي في السادسة من عمرها بالكتابة بكفها ثم بالأحرف النافرة، ثم بدأت تعلمها الكلام بوضع يديها على فمها أثناء حديثها لتحس بطريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين. وذكرت سلوى العضيدان في (هكذا هزموا اليأس) أن هيلين قد أتقنت الكتابة وكان خطها جميلا مرتبا، وقالت: «.. ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي تلقى وأمكنها أن تتخرج من الجامعة عام 1940م حاصلة على بكالوريس علوم. بعد تخرجها من الجامعة عزمت على تكريس كل جهدها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم وكتابة الكتب ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.. وكانت وقت فراغها تخيط وتطرز وتقرأ كثيرا وأمكنها أن تتعلم السباحة والغوص وقيادة المركبة ذات الحصانين.. ثم قفزت بحصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة.. كما عملت على إنشاء كلية لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وقد انتخبت من أهم عشر نساء في العالم.. وقد ألفت كتابين.. وكانت وفاتها عام 1968م عن ثمانية وثمانين عاما». ومن أقوالها أنها قد استمتعت بمباهج الحياة، ونعمت بجمالها، وقالت: لا تحنِ رأسك لمشاكلك ولكن ابقهِ عاليا، وحينها سترى العالم مستقيما أمامك ص39 ــ 41. وفي موضوع له صلة يذكر محمد حسن الزيات (زوج أمينة ابنة طه حسين) في كتابه (ما بعد الأيام) أنه قد ورد خطاب باليد من (سير كلود ماكنزي) يطلب موعدا لزيارة العميد، فيسأل طه حسين: ومن هو السير كلود ماكنزي؟ فيرد عليه السكرتير: إنه خبير عالمي في شؤون المكفوفين، وقد فقد هو نفسه بصره في الحرب العالمية الأولى، وهو الآن يزور عدة بلدان في أرجاء العالم وسيتوقف بمصر يومين، ويسأل إن كان الوقت يتسع لزيارته، ويحدد له موعدا في الغد الساعة الحادية عشرة.. ونجد ماكنزي يقول للصحفيين وهم ينتظرونه عند خروجه من منزل العميد: «.. أعتقد أن مصر يجب أن تفخر بالدكتور طه حسين.. فهو عبقرية فذة قل أن يجود الزمان بمثلها.. إنني أغبطكم لأنكم تعيشون على الأرض التي أنجبت طه حسين.. كما أغبط نفسي لأنني تعرفت إليه، وجلست معه هذا الوقت الطويل». ويسأله صحفي: هل تخبرنا عن طبيعة عملك وعما تريد تحقيقه والوصول إليه؟ فيرد قائلا: «كل أملي في الدنيا هو أن يتمتع المكفوفون في العالم بحقوقهم كآدميين، فيجب أن يكون حب المجتمع لهم وعطفه عليهم هو النور الذي يهديهم سواء السبيل، من يدري؟ قد يكون بين هؤلاء المكفوفين هيلين كيلر أخرى أو طه حسين آخر». ويسأل صحفي آخر: هل تحدثت مع الدكتور طه حسين عن عمله خارج ميدان التعليم والثقافة، فهو كما تعلم عضو في لجنة وضع الدستور الجديد. فيرد سيركلود: «عرفت بالصدفة أنه معني بوضع المواد الخاصة بحقوق الإنسان في مشروع الدستور الجديد، دستور الثورة، وأنه يتعاون على صياغتها مع أحد أساتذة كلية الحقوق. وهذا موضوع لا يهم العلماء ولا يهم المصريين فقط، لكنه يهم العالم كله، الناس جميعا في كل مكان يريدون أن تصان حقوق الإنسان، وأنا سعيد باهتمام طه حسين الشديد بهذا الموضوع».. ص174 ــ 175. ولعلنا بذكرى رحيل عميد الأدب العربي 28 أكتوبر 1973م نستعيد ذكراه العطرة ودوره الريادي في التربية والتعليم والثقافة بمعناها الواسع ــ فرحمه الله.
مشاركة :