لقد حققت هيلين كيلر مقولة (لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس)؛ فرغم إعاقتها الجسدية نذرت نفسها ووقتها لخدمة الأفراد المعاقين. فقد تعرضت في صغرها لسلسلة من الأمراض أدت إلى تدمير حاستي السمع والبصر وبالتالي عدم قدرتها على الكلام. ومع ذلك تغلبت على إعاقتها ونذرت نفسها لمساعدة المعاقين للتمتع بالحياة. وقبل ذلك بدأت بنفسها بعد أن كانت محتجبة عن العالم الخارجي، بل أصبحت وهي في الخامسة من عمرها كما تقول: همجية وعنيدة صعبة المراس تصرخ وتنبش بأظافرها وتبعث الصرخات المكتومة للصم والبكم، فعرضها والدها على الدكتورإلكسندر جراهام بل الذي أوصى بدخولها معهداً للمكفوفين، ولكنها مع بداية رعاية آن سوليفان لها –وهي ضعيفة البصر– والتي استمرت ترعاها حتى وفاتها. بدأت معلمتها تعلمها القراءة والكتابة عن طريق اللمس على يدها، وخلال ثلاث سنوات تعرفت على الحروف الألفبائية وأجادت القراءة والكتابة بطريقة بريل. في العاشرة من عمرها استطاعت كيلر التحدث باستخدام لغة الإشارة وفي السادسة عشرة من عمرها التحقت بمدرسة ثانوية خاصة ثم واصلت دراستها في إحدى الكليات والتي تخرجت فيها عام 1904م بمرتبة الشرف وكانت معلمتها –آن سوليفان– تلازمها خلال تلك السنوات لتترجم المحاضرات والمناقشات وتفسرها لها داخل الفصل الدراسي. بعد تخرجها كرست وقتها لشؤون المكفوفين والصم، وانضمت إلى المؤسسة الأمريكية للمكفوفين وأصبحت من العضوات البارزات بها، وألقت المحاضرات أمام الهيئات التشريعية، وكتبت العديد من المؤلفات والمقالات، وأنشأت صندوق هيلين كيلر للمنح ودعمته بتبرعات الأثرياء. وبعد ذلك امتد اهتمامها إلى القارات الخمس أثناء الحرب العالمية الثانية بتحسين أوضاع المكفوفين في الدول النامية والدول المتأثرة بالحروب، بل وأصبحت سفيرة لهم وناطقة باسمهم، فقامت بإلقاء المحاضرات في أكثر من 25 دولة في قارات العالم الخمس. نالت هيلين كيلر الكثير من الجوائز المميزة ومن بينها شريط الفروسية لجائزة وسام الشرف الفرنسي وجائزة إنجاز خريجي كلية راد كليف، والعديد من الأوسمة المختلفة من دول العالم. ترجمت كتبها إلى أكثر من 50 لغة، ومن كتبها قصة حياتي (1903م)، التفاؤل (1903م)، العالم الذي أعيش فيه (1908م)، نشيد الجدار الحجري (1910م)، الخروج من الظلام (1913م)، ديانتي (1929م)، التيار الوسط: حياتي اللاحقة (1930م)، المعلم (1955م)، وهي مجموعة قصص عن معلمتها آن سوليفان. وبعد وفاة آن سوليفان تولت ماري أجنيز طمسن دورها كمعلمة وسكريترة لكيلر. ونجد هيلين كيلر بعد الحرب العالمية الثانية برفقة سكرتيرتها الجديدة تزور الكثير من دول العالم لإلقاء المحاضرات مطالبة بتحسين أوضاع المكفوفين في الدول المتضررة بالحرب وغيرها. ولهذا نجدها تزور القاهرة في شهر أبريل 1952م ونجد وديع فلسطين يقابلها –حيث تقيم في فندق سميراميس– كصحفي، ويقول عنها: (.. فسعيت بدافع من عملي الصحفي، مع زملاء آخرين، إلى لقاء هذه السيدة المعجزة التي استطاعت برغم فقدان ثلاث من حواسها أن تبتكر أسلوباً للتفاهم مع الناس، فتبسط راحة يدها على خدّ المتحدث وفمه وتدرك من تقلصات العضلات ما الذي قاله، ثم تقوم سكرتيرتها ببسط راحة يدها على فم هلن كيلر وخدّها وتعرف بدورها من التقلصات ردّها على المتحدث وتنقله إليه. وتعلمت هيلين كيلر الكتابة على الآلة الكاتبة، وصارت لها مؤلفات، كما تابعت الدراسات العليا حتى نالت درجة الدكتوراه، عدا الدرجات الفخرية التي منحتها من الجامعات... أجريت معها حديثاً للجريدة التي كنت أعمل فيها، وبينما كان الحديث دائراً، دخل الدكتور طه حسين باشا بطربوشه التقليدي، متأبطاً ذراع سكرتيره فريد شحاته، فأفسحت له مكاناً بيني وبين هيلين كيلر، وتطوعت بالترجمة بينهما لأن طه حسين يجيد الفرنسية دون الإنجليزية.. وشكرني لأنني يَسَّرت عليه مهمة التحدث مع هذه السيدة العجيبة التي قالت عندما أطلّت من شرفة الفندق إنها (ترى) النيل، فلما سألناها: كيف؟ أجابت: إن الهواء المشبع ببخار ماء النيل الذي يهب عليّ رسم صورة للنهر في خيالي، ودعيت هيلين كيلر لإلقاء محاضرة في قاعة يورت التذكارية بالجامعة الأمريكية فحياها الجمهور بالتصفيق، وهنا انحنت إعراباً عن شكرها، ولما سئلت: كيف أدركت أن الجمهور يصفق لك؟ أجابت –بواسطة سكرتيرتها– أدركت ذلك من اهتزاز أرضية المنصة التي أقف عليها). وبمجرد وصولها للقاهرة نجدها تطلب لقاء طه حسين وتقول إن لقاءها به سيكون أجمل يوم في حياتها، فتروي (سوزان) زوجة عميد الأدب العربي في كتابها (معك) (.. وكنا نشعر بانفعال شديد حين ذهبنا، طه ومؤنس (ابن طه) وأنا، إلى فندق سميراميس، ونتساءل كيف سيدور الحديث مع امرأة لم تكن عمياء فقط وإنما صماء بكماء أيضاً. والحق أن ذلك لم يكن صعباً على نحو ما انتظرنا، أولاً لأن هذه المرأة كانت بشوشة بقدر ما كانت لطيفة، كما كانت ذكية إلى حد خارق، ثم لأنه كان بالقرب منها سكرتيرة مدهشة كانت تسمى فيما أذكر (مس طومسون). لقد كانت تقوم بكل ما يمكن، و كانت تعرف بالطبع لغة الصم والبكم في مثل هذه الحالة الخاصة إلى حد كبير، كانت تنقل الأسئلة والأجوبة بسرعة من طرف إلى آخر، وذلك بضغطة تقوم بها على حنجرة هيلين، أو بمس قبضتها. تحدث مؤنس كثيراً، وكان مبهوراً، وفي الغداة، ألقت هيلين كيلر خطبة في صالة اختيرت بقصد ألا تكون واسعة.. والتقطت لنا صور معها، بدت فيها هيلين كيلر من المرح بحيث لا أسمح لنفسي أن أنظر إليها بحزن..). وذكرت سلوى العضيدان في (هكذا هزموا اليأس) أن هيلين قد أتقنت الكتابة وكان خطها جميلاً مرتباً، وقالت: (.. ثم التحقت هيلين بمعهد كمبردج للفتيات، وكانت الآنسة سوليفان ترافقها وتجلس بقربها في الصف لتنقل لها المحاضرات التي تلقى وأمكنها أن تتخرج من الجامعة عام 1940م حاصلة على بكالوريوس علوم. بعد تخرجها من الجامعة عزمت على تكريس كل جهدها للعمل من أجل المكفوفين، وشاركت في التعليم وكتابة الكتب ومحاولة مساعدة هؤلاء المعاقين قدر الإمكان.. وكانت وقت فراغها تخيط وتطرز وتقرأ كثيراً وأمكنها أن تتعلم السباحة والغوص وقيادة المركبة ذات الحصانين.. ثم قفزت بحصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم والدكتوراه في الفلسفة.. كما عملت على إنشاء كلية لتعليم المعوقين وتأهيلهم، وقد انتخبت من أهم عشر سيدات في العالم.. وقد ألفت كتابين.. وكانت وفاتها عام 1968م عن ثمانية وثمانين عاماً). ومن أقوالها: أنها قد استمتعت بمباهج الحياة، ونعمت بجمالها، وقالت: لا تحني رأسك لمشاكلك ولكن أبقها عالية، وحينها سترى العالم مستقيماً أمامك.
مشاركة :