إدريس جمّاع وعي الشعر في محكّ الجنون

  • 12/19/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لو يدرك المرء علامات اضطرابه فيعي موقعه من التحولات الطارئة عليه لَسَلا وخامرته جرعة من السكينة، ولو استطال بالطارئ الزمن، ولنما يقينه بحتمية تبدد ما اعتراه، أمّا حصيلة الأسى المتأتية من التبدلات الذهنية القارّة فيه، عاقدة عزمها على الاستدامة والاستفحال فلا يمكن التنبؤ بها، لكنّ المؤكد أن تلك الحصيلة ستتواطأ وحالته الذهنية، على تغييبه عن عاديته واتزانه، وقد حدث ذلك لمبدعين كثر. تسوق الكتب بلا هوادة سِيَر الشجْوِ والأفول كما في معاناة فان كوخ، واضطرابات كاميل كلوديل، وعن مكابدات الشعراء وذهانهم تخبرنا القصائد، هنا نتوقف عند شاعر عربي عانى ما عاناه من الاضطراب الذهني، لكنّه نجح في بداياته الشعرية أن يسطر إبداعًا لافتًا، دلّل على تجديده في الشعر وتصدّره. قصيدة "أنت السماء" مما أجاد الشاعر السوداني إدريس جمّاع في البواكير، وقد تراوح الغرض الشعري فيها بين المدح والغزل، لا سيّما أنه شاعرٌ بجذور صوفية، تقرّ ذلك المزج بل وتنتهجه. أوحت نشأة الشاعر الهادئة في مقرّ مشيخة أجداده "حلفاية الملوك" بالسير على الوتيرة الواحدة، فقد كان طفلاً بعيداً عن شغب الأقران وهياجهم، في أسرة متحابة، لكن سرعان ما تبدد ذلك الإيحاء، فكان هدوءًا يمهد لأمرٍ جللٍ يخلف السكون. لقد جس الشاعر في داخله مكامن الأسى باكراً، فترجم ذاته في مواضع عديدة من شعره بصور بليغة تنضح بالمعنى، ومنها: وأيّامي تُساقط من حياتي كأوراقٍ ذوتْ والريح تـذري تطامنَ دوحها وهوى مكبًّا وأجفل عنه تيــــارٌ بنهـــر جُبِل إدريس جمّاع على الإنسانية المفرطة ورهافة المشاعر، فكان ودودًاً متعاطفًا دفاقًا في عطائه، ويبدو أنّ الحياة بصدّها، قد آذت نفسه، وجرحت رغبته فيها، وراكمت الكسور في داخله، فخيّم عليه التشاؤم، وصار يرى الموت مصيرًا وخلاصًا في ذات الوقت، يظهر ذلك جلياً في قوله: أشاهد مصرعي حينًـا وحينـًا تخايلني بها أشباح قبري وفي الكون الفسيح رهين سجنٍ يلوح به الردى في كل شبر فرغم تزاوج الإبداع بالخيال، وتعذر انفكاكه عنه إلّا أنَ ولوجه لا يؤمَن من دون مخرج، وباعتبار العقل آلة الأحكام، وصمّام الاتزان، والمرجعية التي تبنى عليها الأفعال، فقد وُصف الشاعر بالجنون، وذهاب العقل فضجّ رأسه بالهواجس التي فصلته عن واقعه وجعلته هائماً فيها، سارحاً بخيالاته، حتى عطّلت شعره، وأخّرت نتاجه، إلا في أوقات يعود فيها من سكراته إلى الرشد، فيستحضر ملكاته، ويتخلى عن ذهوله مؤقتًا، ويتعرّف إلى واقعه، فتجود قريحته، وتتمخض عن عذب الشعر، ومما قال في تلك الحال: يقلبني الفِراش على عذابٍ يهزّ أساه كل ضمير حرِّ تطالعني العيون ولا تراني فشخصي غيرته سنين أسرِ يصمّ صليل هذا القيد سمعي وفي الأغلال وجداني وفكري إنه يعي تمامًا أغلال الحالة التي تنتابه وتسلب حريته، لتزج به في ضيق مركبّ من التغييب والالتباس. لقي جمّاع مصيرا آلم أصدقاءه وأهله، فقد ظلّ أسير هواجسه واعتلال عقله حتى مماته، رغم محاولات جادة للعلاج في مصحات مختصة في بلده وخارجها، لكنّها لم تسفر عن تحسنه، ولعلّه تمثّل في استحالة الشفاء وإمكانية الاستقرار، الأبيات الأوائل والأشهر في شعره عندما أنشأ يقول: أنتِ السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنّا.

مشاركة :