لَيسَت المَرَّة الأُولَى؛ التي أكتُب فِيهَا عَن عَلَاقة الجِنّ بالشِّعر، وأنَّ الشُّعرَاء إمَّا مَجَانين، أَو أَنصَاف مَجَانين، أَو هُم فِي اتِّجَاه الجنُون.. هَذا الجنُون يَتوقَّف عَلَى قُدرَات الشَّاعِر، فكُلَّما ارتَفَعَت مَزَايَا شِعره وقِيمته؛ ارتَفَع مِقدَار جنُونه، وكُلَّما قَلَّ جنُونه قَلَّ إبدَاعه.وعَلَاقة الجنّ بالشِّعر والشَّيَاطين؛ انتَبَه لَهَا أَهل الجَاهليَّة، قَبل أَهل الإسلَام، حَتَّى هَجَا أَحدُهم الشُّعرَاء مُفتَخِرا بأنَّ شَيطانه ذَكَر، وشَيطَان غَيره أُنثَى، حَيثُ قَال:إنِّي، وكلّ شَاعرٍ مِن البشرْشَيْطانهُ أُنثَى وشَيطَاني ذَكَرْوقَد اعتَرَف أَحَد أَسَاطين الشِّعر العَربي -وهو الشَّاعِر «نزار قباني»- بعَلَاقة الشِّعر بالعَفَاريت والجِنّ، ولَكنَّه بَرَّر ذَلك، حَيثُ يَقول فِي كِتَابه «مِن أَورَاقي المَجهولَة»: (إنَّ رَبْط الإبدَاع بالجِنِّ والعَفَاريت، والأروَاح الشِّريرة، تَكتيكٌ عُدوَاني مَقصود، غَايته التَّرهيب والتَّخويف؛ فالمُتضرِّرون مِن الشِّعر كَثيرون، والمُتربِّصون بِهِ كَثيرون، والخَائِفون مِنه كَثيرون؛ لأنَّه يَدعو إَلى تَغيير الإنسَان، وتَغيير العَالَم؛ فرِجَال الدِّين كَانوا ضِدّه، والعَلْمَانيون كَانوا ضِدّه، والمَاركسيون كَانوا ضِدّه، والرَّأسمَاليون كَانوا ضِدّه، والمُحَافظون كَانوا ضِدّه، والتَّقدميون كَانوا ضِدّه، والفَلاسفيون كَانوا ضِدّه، والعُلمَاء كَانوا ضِدّه، وَحدهم الأطفَال والنِّسَاء والمَجَانين؛ كَانوا مَع الشِّعر)..!إنَّ المُجتَمع –الآن- لَيسَ بحَاجةٍ إلَى شِعرٍ وقَصَائد، بقَدر مَا هو بحَاجةٍ إلَى فِكرٍ وإنتَاج وعَمَل، ومِن المَعروف عِند النُّقَّاد، أَنَّ الأُمَّة إذَا سَقطَت فِي سَاحَات التَّخلُّف، ارتَفعت قِيمة الشِّعر، وإذَا صَعدت إلَى مَدارج الحَضَارة وسَاحَات الوَعي، ارتَفَعَت قِيمة النَّثر، ومَنتوجات الفِكر..!حَسنًا.. مَاذا بَقي؟!بَقي أَنْ أَسأَل: هَل أَنتُم أُمّة شِعر، تَرتَبط بالجِنّ والعَفَاريت والشَّيَاطِين؟ أَمْ أَنتُم أُمَّة نَثر، تَرتَبط بالإنتَاج والعَمَل والفِكر، وجَودة المَضَامِين؟!
مشاركة :