فيلم ــ مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” لزياد الرحباني المنبعثة حديثاً في الصالات، بعد مرور قرابة أربعة عقود على عرضها على خشبة المسرح ، تبقى وتستمر حدثاً لافتاً في عرضها السينمائي الآني. ذلك أنها تحمل في بذور تشكلها، ذاكرة أصيلة لا يمكن أن تكون إلّا كما هي، كما أرادها مؤلفها، ذاكرة الحرب اللبنانية التي لم تنته بعد. كيف يمكن فرز الجيل أو الأجيال؟ وبالأحرى، كيف يمكن تقسيم الجمهور، جمهور مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” الذي أطلقها وأعادها الى الصوت والصورة الفنان الموسيقي زياد الرحباني؟ سؤال يطرح حول المسرحية التي بدأ عرضها مصورة في الصالات اللبنانية منذ فترة لا بأس بها، وهي في شقين، مقسمة الى قسمين . وطبعاً إن القسم الأول من المسرحية هو مجايل لأعمال زياد الرحباني الأولى، وكان قد شاهدها حين عرضت سنة 1978، والقسم الثاني من المسرحية يمكننا القول أنه يعرفها من خلال الصوت المبثوث في الإذاعة والكاسيت (فقد استمرت في سوق السمع حتى تاريخ الحاضر) . قد يحاول القسم الأول التأكد من صحة ما رأى وسمع، صحة ذاكرته، من خلال مشاهد كانت صوّرتها الراحلة شقيقة زياد ليال الرحباني بكاميرا خاصة من بعيد من مقاعد ليست قريبة جداً من المسرح، مقاعد الجمهور. تظهر الذكريات المحفوظة وتتحول الى صورة غير مقنعة، صورة غير واضحة (رديئة الصورة)، لكنها تؤكد لذلك القسم من الجمهور أن ما شاهده يومها كان حقيقياً. ومن هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس، لا بد أن المسرحية تضع أولئك أمام أسئلة كثيرة وضرورية: كيف رأينا المسرحية في حينها وكيف كانت وقتها؟ وسؤال معطوف كأنه يقول، كيف كنّا في حينها؟ وسؤال كذلك ملح ، من هي شخصيات المسرحية التي لفتت انتباهنا وتركيزنا؟ والسؤال الأكبر والحتمي، هل بالغنا كثيراً بالقول بأن العمل قد أعطى ما يشبه الأجوبة الثابتة عن أسباب الحرب التي دارت وتدور في بلادنا؟ في القسم الثاني من الجمهور (والذي رأى المسرحية بالصوت والخيال) تبرز إشكالية من نوع مختلف ومحير. فقد كان هذا القسم قد رأى و شاهد العمل فقط من خلال الخيال، وكان تصوره لأحداثها على الأغلب، يدور في أمكنة حقيقية (كحانات شارع الحمرا الشهير وسط المدينة) وليس على الخشبة كما رآها في العرض السينمائي المباشر والغائم والمشوش إخراجياً. أما الشخصيات فكانت أصواتاً مترددة ننفذ الى عالمها من خلال حركة وطريقة كلامها ولهجاتها، وهي الآن تتحول الى (خيالات)، الى ملامح صور حقيقية تستحضر الحيرة، تجعلنا نحتار في كيفية وضعها أمام المصادر الأولى للصوت، مصادر الصوت الأصلية. سؤال شديد الأهمية لا يمكن تجاوزه.وكما يقال دائما أنه بإمكان الصوت أن يكون أقوى من الصورة او ما يعادلها تعبيراً ودلالة، وبإمكانه أن يقدم تمثيلاً متصوراً في غاية الوضوح لأحداث سابقة، وطريقاً لفهم الشخصيات والنفاذ الى بعض أوجه عوالمها الداخلية. وهذا لم يبرز ولم يتحدد بملامح مقنعة. لم تكن الصورة في العرض في أحسن أو أفضل حالاتها لتثبت جدارة ما وتفوقاً ابداعياً، وتنقل أداء الممثلين بشكل واضح، بل أكدت لنا أنه بإمكان الصوت أن يستغني عنها وربما أن يقدم، من خلال تحفيزه لخيال المستمع، إشباعاً أكبر وأكثر اختلافاً من تجربة المشاهدة أمام الصورة. ربما من سلبيات عرض المسرحية، أنه أبعد أو أزاح أجزاء من هذا الخيال ورتبه ضمن حجم عادي، كأنه أعاده الى حجمه الحقيقي ، كمجرد عرض على خشبة فقط لا غير. وهذا أمر آخر يضعنا أمام تساؤلات: هل عرف زياد الرحباني منذ البداية أن تصوير أعماله كانت ستأخذ كل هذا النجاح الذي حققته في الصوت فقط، هل كان يشتغل على فكرة وقاعدة تقول بان الصوت هو أساس المسرحية وما يليها من حضور، ما الدافع الإبداعي الذي حرّض زياد لإعادة انتاج المسرحية سينمائياً؟ لا يمكن القفز فوق انجذاب الحضور، فقد بدا الجمهور منشرحاً في العرض رغم كل ما ظهر من تنافر زمني وشكلي، فردد الكلمات و الجمل التي تقولها الشخصيات والأغاني التي يؤديها الفنان الراحل جوزيف صقر. حفظوها جيداً من خلال الصوت لمدة أكثر من ثلاثين سنة. ولا بد من القول هنا أنه لا يمكن الحديث عن المسرحية بعيداً من تلك الزاوية أو الركن والشخصية والحميمة التي يبدو أن الشركة المنتجة استفادت منها وأعادت استثمارها. اختارت الشركة مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” كأول عمل تقوم بنقله وتحويله، وسيأتي من بعدها “فيلم أميركي طويل”، حسب ما علمنا، والتي يظهر من المقتطفات التي عرضت منها، أنها مصورة بطريقة أفضل من سابقتها ، وغير غائمة وملبدة إخراجياً . يضعنا هذا الأمر أمام تساؤل عن سبب اختيار الشركة عملاً مصوراً بطريقة رديئة كأول إنتاج لها، عوضاً عن “فيلم أميركي طويل” والذي يبدو أنه عمل أنقى واصفى، وهذا ما تاكد لنا أيضاً. يرسم الإقبال الشديد على الحجز المسبق للعروض المقبلة من المسرحية المصورة، جواباً كبيراً على أهمية ما حققه الفنان زياد الرحباني في المسرح والموسيقى. ويبدو أن الجمهور ما زال يسأل عن الرحباني ولا يخفي شغفه لرؤية أي شيء يقدم أمامه من أعمال زياد الرحباني، لم يعد مهتماً بنوعية الصورة، طالما أنه يرى للمرة الأولى ما سمعه وتخيله لوقت طويل. هذا الحضور الناجح لعمل مسرحي قديم ،يُعرض حديثاً، يؤكد أن ثمة صورة مشرقة وابداعية تبرز في أعمال زياد الرحباني ، واذا ما حاولنا الإضاءة على بعضها، نرى الكثير من العوامل التي أسست وانجحت . وتكمن عوامل نجاح الرحباني في تحويل أشخاص عاديين غير محترفين الى ممثلين على خشبة مسرحه، وقدرته على وضع أولئك في مواقف شخصياتهم الأصلية. فقد جعل من خشبة المسرح مساحة ، كمرآة للواقع . استطاع نقل الواقع كما هو تماماُ. وهنا تكمن أهمية وتفرد زياد (المسرحي). يرتاد الممثلون المكان المسرحي كأنهم في الواقع . يقومون بكل شيء، يستحضرون وقائع الواقع كما هو، كإحتساء المشروب والتدخين والتحدث والنشاط والحركة والظهور… تتابع الشخصيات وتتوالى أدوارها بشكل موازٍ، وتتحدث بشكل دائم مع بعضها البعض، ولا يرتفع صوتها الا عندما يأتي دورها في الكلام. مشاهد واقعية جداً لا يشوبها تصنّع . إن تحويل الحركة المسرحية على الخشبة من أداء مباشر الى حركة سينمائية مصورة بتقنيات (بدائية) مع تقليص فارق البعد الزمني بين العملين (القديم والمحدث) يمثل ذروة المغامرة المسرحية، فهل أفضت مغامرة زياد الرحباني الى ما يؤسس لشكل مسرحي جديد؟
مشاركة :