أمر خفي يسري بين الناس في علاقاتهم الاجتماعية، لا نكاد نلمسه او لا نملك أن نطلق عليه ظاهرة لكنه امر محسوس نراه ونعيشه ولا نستطيع تحديد اسم له وربما هو اختفاء التسامح وانتشار القطيعة بين الناس. هو ليس بقطيعة خصام تنتهي بالاعتذار وليس مشكلة ثأر او غضب او كراهية او أي شيء مما هو معروف في اسباب القطيعة والجفاء بين البشر انه شيء آخر يشبه اننا اصحاب لكن بلا التزامات، واخوة لكن بلا مساندات، وابناء واباء لكن بلا صلات حقيقية. عاطفة تجف رويدا رويدا ببطء شديد لكن بثبات، كأننا نسير الى مستقبل آلي بارد لن تختلف فيه شكل العلاقات التي تربط بين البشر لكن ستختفي فيه العواطف التي تصل بينهم، وإلا لماذا من السهل على المرء أن يقاطع احدا من اهله او اقربائه زمنا طويلا من دون أن يرف له جفن ولماذا رغم أن ديننا يحث بشدة على صلة الرحم إلا أن كثيرا من الناس لا يفهمون عبارة وصل من قطعك ويرونها اهانة، هل وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في انتشار القطيعة بين الناس أم انها فتحت امامهم قوائم معارف لا تنتهي. نراهم في كل مكان حمد شاب في العشرين من عمره يدرس في جامعته وكليته في السنة الاولى وهو طالب بكلية الهندسة وله اخ اكبر منه تخرج من نفس الكلية ونفس القسم، اعتقد حمد أن اخاه سيكون خير عون له في اتمام دراسته على الوجه الاكمل لكنه كان مخطئا تماما حين فاجأته الايام بصد اخيه التام عنه وعدم مساعدته له في أي شيء في حين أن اخاه لا يتوانى لحظة عن تقديم الخدمة تلو الخدمة لاخ صديقه وابن الجيران..! ولهذا السبب حمد لا يكلم اخاه والعلاقة بينهما تكاد تكون منقطعة لولا السكنى تحت سقف واحد ما رأى احدهما وجه الآخر. منى شابة في الخامسة والعشرين من عمرها تتعرف كل اسبوع إلى صديقة جديدة ولا يكاد ينقضي الاسبوع حتى تكون علاقتها قد انتهت بينها وبين صديقتها التي تعرفت إليها للتو ودائما لديها اسبابها تغار مني، تحقد علي، تنافسني في شراء ملابس تشبه ملابسي، تحدثت مع صديقة مشتركة اكثر مني، لم تهنئني أو لم تواسني، ما اسرع ما ينتشر الجفاء بينها وبين صديقاتها وما اسرع ما تختلق صداقات اخرى عبر وسائل التواصل استعدادا لانهائها بعد قليل! احمد رجل مسن تجاوز السبعين من عمره لا يسمي ابتعاد اولاده عنه جحودا او جفاء اوعقوقا لكنه يستميح لهم العذر دائما فقد اغرقه الابناء بتفاصيل الاعذار حتى اختلط بعضها ببعض، فلابد أن احدهم ابنه مريض وآخر لا يذكر أن زوجته تلد وثالث مسافر في رحلة عمل واحدهم يعاني اعراض البرد ولا يريد أن يعديني وابنتي لديها زوج صعب المراس وابناء متعبون وهكذا لدى الجميع عذرهم هم يأتون ولكن قليل جدا وهم يجلسون لكن بعيدون جدا وهم طيبون لكنهم جافون جدا. عصرنه متغولة يقول د. خالد الرديعان استاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود: قد لا تكون مقاطعة الأهل والأقارب ظاهرة تستحق الاهتمام، فهي قد تكون محدودة، إلا أن هناك سببا لبروزها يلزم عدم اغفاله وهو أن المسؤولية تجاه الأهل والأقارب قد تكون كبيرة مقارنة بمسؤولياتنا تجاه الاصدقاء، ومن ثم يفضل الفرد البقاء على علاقته بالاصدقاء لأنها أقل كلفة على المستوى الاجتماعي ولا تتضمن التزامات مرهقة سواء مالية أو اجتماعية في ظل النزعة الفردية التي يبدو انها هي السمة الغالبة عند معظم الشباب في ظل التحولات التي تمر بها مجتمعاتنا التقليدية وانتقالها الى حالة الحداثة والعصرنة وأخير مرحلة العولمة التي ننظر لها كوجه جديد للرأسمالية المتغولة. والأسرة كملاذ آمن للأفراد للأسف فقدت جزءا من بريقها وبعض وظائفها الأساسية في التربية، ومن ثم اصبح البديل هو العلاقات الاجتماعية "الخفيفة" التي لا تكبل الفرد بقيود، ومنها علاقات الاصدقاء والعلاقات العابرة والثانوية والمصلحية، وبالتالي فقد يكون الفرد أكثر تسامحا مع الاصدقاء لعدة أسباب وهو أن شبكة الاصدقاء قد توفر لنا ملاذا مناسبا لتحقيق بعض احتياجاتنا الحياتية مثل "الواسطة" على سبيل المثال؛ اذ كلما اتسعت دائرة علاقات الصداقة والمعارف اتسعت الخدمات التي قد نحصل عليها كنا في السابق، نحتفظ بعدد قليل من أرقام الهاتف في جوالاتنا تشمل الأقارب وعددا صغيرا من الاصدقاء في حين اننا الآن نحتفظ بمئات الأرقام وأغلبها لأصدقاء ومعارف "قد نحتاج إليهم" يوما ما وبالتالي من الطبيعي أن نكون أكثر تسامحا معهم وقبولا لهم. الخطاب الوعظي وعن دور الائمة والوعاظ في الابقاء على الروابط العاطفية بين الناس عامة وافراد الاسرة الواحدة خاصة يقول د. الرديعان: الخطاب الوعظي للأسف لا يخاطب الناس أحيانا بلغة العصر بل يستخدم لغة اقول انها ربما كانت غير مناسبة رغم أهمية الوعظ وتذكير الناس بما يجب عليهم القيام به، يجب أن ينزل الواعظ للناس ويتلمس مشكلاتهم عن كثب، ومن ثم يقوم بدوره وفوق ذلك، فقد طغت النزعة المادية على كثير من الناس بسبب ايقاع العصر ومتطلباته، فضلا عن ذلك فقد تضعضع دور التربية الأسرية بسبب هيمنة وسائل الاعلام وتدفق المعلومات الكبير، فأصبحت هذه الوسائل هي المهيمنة. يمكن بهذا الخصوص النظر الى الوقت الذي ننفقه في وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بالوقت الذي نخصصه للأسرة أو الأقارب اذ سنكتشف اننا ننفق من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما يجب، وفي الحقيقة هناك تحول اجتماعي ليس في صالح العلاقات القرابية والأسرية، وهناك تقصير من الوعاظ في مجاراة التغيرات السريعة رغم بعض الجهود المميزة لبعض الوعاظ من خلال توظيفهم لوسائل التواصل الاجتماعي لتعميق العلاقات القرابية وصلة الرحم، يتم ذلك من خلال اليوتيوب والواتسب واقصد بذلك المقاطع القصيرة التوعوية. ثقافة الأنا وفي محاولة للتملص من هذه الشرنقة المخيفة يقول الرديعان: يمكن للانسان أن يتسامى عن الانا ويقترب متسامحا مع من قطعه بخطوات لا تمس كرامته ولا تشكل عبئا نفسيا عليه اذا استشعر أهمية الآخرين ووجودهم في حياته ودورهم حتى وان كان ذلك يرتبط بمنفعة أو مصلحة، وهذا لن يتأتى بسهولة ما لم تكن العاطفة الدينية قوية عند الفرد فضلا عن ذلك فإن الانسان كما يقول الفلاسفة كائن اجتماعي ولا يستطيع العيش بمفرده وبالتالي من الأهمية بمكان تطبيق هذه القاعدة الذهبية ولكي نعيش مع الآخرين يلزم أن نتقبلهم ابتداء، وان نتسامح معهم. فنحن كما ذكرت بحاجة ماسة لتوسيع شبكة علاقاتنا الاجتماعية للحصول على الحب والمودة والشعور بأننا بشر نعيش مع غيرنا، اضافة الى تلبية احتياجاتنا الأخرى فالأفراد يحتاجون بعضهم إلى بعض مهما تسامينا وقلنا أن العلاقات مجردة وانها بعيدة عن المنفعة لكنها المنفعة التي تربط بدماثة الخلق والآداب الاجتماعية ومنها فضيلة التسامح وتقبل الآخرين وكما يقول المثال الشعبي" الناس بالناس والكل بالله" ما يعني أن البشر يظلون بحاجة بعضهم الى بعض وهو ما ينطبق كذلك على المجتمعات اذ لم يسجل لنا التاريخ أن هناك شعبا معزولا او انه مكتف بذاته. مردود دنيوي ويستطيع المتسامح الحصول على كثير من المردودات الدنيوية اذا كان متسامحا ومتقبلا لغيره فمثلا - كما يقول د. خالد: سيحصل على توسيع شبكة علاقاته الاجتماعية وهو كذلك يستطيع الافادة من التعامل مع غيره، فالانسان يتعلم ويكتسب كثيرا من المهارات اثناء احتكاكه بغيره، وكلما اتسعت دائرة علاقات الفرد مع المحيطين به ازدادات خبراته الحياتية ومعلوماته التي قد يحولها الى سلوك مفيد، ويشترط لذلك أن يكون الفرد متسامحا ومتقبلا لغيره لكي تزداد خبراته، فشخص يقول انه يعرف كل شيء وانه لا يحتاج الى غيره سيفتقد كثيرا من الخبرات التي يكتنزها غيره بل سيزداد جهله بحكم تسارع نمو المعلومات في هذا العصر. ونحن على سبيل المثال نتعلم في بيئة العمل وهي احتكاك دائم مع الآخرين - وهم كثر أكثر مما نتعلم من الكتب وما درسناه عندما كنا على مقاعد الدراسة، وكلما ازداد عدد الاشخاص الذين نتعامل معهم زادت مهاراتنا الحياتية؛ لأننا نكتسب خبرات متنوعة بشرط أن يكون لدينا قابلية عليا لقبول من نتعامل معهم حتى لا نخسرهم ومن ثم نخسر ما يمكن أن نتعلمه منهم شخصيا، فقد ارتبطت مع مجموعة مميزة تناهز السبعين شخصا من خلال مجموعة واتسب اغلبهم كتاب ومثقفون ومسؤولون وأشخاص من مختلف المناطق والمشارب ونتناقش بقضايا كثيرة وقد أفدت كثيرا مما يطرحون في كتبالتهم الواتسبية فجموعتنا مثقفة وأعدها نخبة جميلة استفدت منهم كثيرا، انا اشبه الافكار التي افدتها منهم وكأنني قرأت سبعين كتابا ولا سيما أن بعضهم كتاب ولهم اسهامات فكرية في الصحف المحلية ووسائل الاعلام التقليدية. سلاح ذو حدين وعن وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في وصل علاقات الناس او قطعها فيقول استاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود: يمكن القول أن وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدين؛ فهي من جهة ساعدت في تواصل الناس بعضهم مع بعض بصرف النظر عن اماكن اقامتهم، فنحن ومن خلال الواتسب مثلا نتواصل مع أشخاص يقيمون في أماكن بعيدة عن مكان اقامتنا، ما يعد إحدى ايجابيات التواصل الاجتماعي، بل انا ومن خلال هذه الوسائل أصبحنا في قلب الحدث فما يجري في أي مكان يمكننا الاطلاع عليه صوتا وصورة وخلال ثوان ما يعني سرعة وصول المعلومة وعدم وجود قيود على تدفق المعلومات، كما هو الحال عليه في السابق. وساهمت هذه الوسائل كذلك في خلق وعي اجتماعي بأهمية المعلومات وأهمية التحقق من صدق ما نتلقاه فهناك شائعات كثيرة يتم نقلها بواسطة هذه الوسائل لكن يتم كذلك التحقق من صدق المعلومة بنفس هذه الوسائل. كما ساهمت هذه الوسائل في سرعة بلورة الرأي العام تجاه معظم القضايا التي يتم نقلها والتعليق عليها وليس أدل على ذلك من قضية التحرش بفتاتي جدة حيث تبلور رأي عام قوي ضد التحرش، ومن ثم ضرورة صياغة قانون يحد من التحرش الجنسي بالمرأة ايضا، وبفعل وسائل التواصل الاجتماعي يمكننا الآن معرفة الموقف الاجتماعي والأقليمي والدولي من أي قضية من خلال تويتر والفيسبوك والواتسب كما ساهمت هذه الوسائل في اتساع العلاقات الاجتماعية من خلال اعداد المتابعين followers فبعضهم يبلغ عدد متابعيهم الملايين وهو ما يسرع من انتقال المعلومات وتداولها وبلورة مواقف واضحة منها. من جهة أخرى فإن لهذه الوسائل وجه آخر قبيح وهو أن بعض مرتاديها ومستخدميها يدخلون اليها بأسماء مستعارة ووهمية ويثيرون بلبلة اجتماعية وأحيانا مشكلات كنقل الشائعات والترويج لأفكار منحرفة ومتطرفة، فضلا عن استخدام الجماعات الارهابية لهذه الوسائل لتجنيد الاتباع وترتبط تلك الاستخدامات بمدى الوعي الاجتماعي في استخدام هذه الوسائل وهي المسألة التي تحتاج الى وقت أطول لكي يتحسن استخدام هذه الوسائل وتوظيفها فيما هو مفيد كخلق التسامح بين الناس والتقريب فيما بينهم وتبادل المصالح ومن السلبيات الأخرى لهذه الوسائل كما ذكرت هو كمية الوقت الذي ننفقه عليها مقارنة بما نفسحه من وقت لمن يعيشون معنا ونعيش وسطهم، إلا أن هذه السلبية قد تخف مع الوقت. اعمل لشيبتك من جهتها قالت فاطمة الخليوي -المدربة التربوية-: «الوحيدون يموتون مبكراً، استقبل كثيراً سيدات على أعتاب الستين تتشابه مشاكلهن وتتلاقى في نقطة الخوف بل الرعب من الوحدة، حتى في ظل وجود أبناء وجارات وصديقات، لكن الخوف من الوحدة نشأ لديهن منذ أن صارت العلاقة بينهن وبين من يعرفن عابرة لا تتجاوز الشكليات، واختفت من حياتهن الصداقة الحقيقية ضاعت في زحمة الحياة، واعكف حالياً على دراسة حول ماذا نفعل في شبابنا حتى لا نندم في شيخوختنا، ووجدت أنّ أكثر ما فوت كبار السن المتأزمون على انفسهم هو وجود رفيق حقيقي يمضي معهم أيامهم ويتشارك معهم الذكريات والضحكات والانتصارات والخيبات، وجدت أنّه ليس شرطاً أن يكون الصديق شخصاً تعرفت عليه، ولكن يمكن أن يكون أخاك، أباك، جارك، زميلك، وحتى ابنك، فالمهم أن يكون لديك من تثق ثقة مطلقة أنك حين تريد أن تتكلم وتبوح سيكون بجانبك، لن يعيرك أذنا غائبة أو ملامح باردة ودائما هو موجود». وأضافت: «ينبغي أن ننتبه له قبل أن تمضغنا الوحدة في شيبتنا، من كان له أخ ينبغي ليجعل علاقته به قوية، يراه، يسأل عنه، يزوره، يتعرف على أبنائه، يسانده في محنه، ويشاركه كل تفاصيل حياته، والأمر كذلك مع الأصدقاء وأفراد العائلة والمعارف وزملاء العمل.. اصنعوا دائرة أصدقاء حقيقية حولكم، ولا تتركوا أنفسكم لأدوات التواصل الاجتماعي، التي تفرق أكثر مما تربط، فلن يفزع لك شخص تعرفت عليه عبر شاشة، ولن يتواصل معك صديق افتراضي لا تربطه بك مشاعر حقيقية».
مشاركة :