استفزّت الأغاني التي بُثّت خلال التظاهرات المطلبية اللبنانية التي دعت إليها مجموعة «طلعت ريحتكن» وغيرها من حركات المجتمع المدني على خلفية قضية النفايات، بعضَ المواطنين، سواء المشاركين في التظاهرات أو الجالسين في بيوتهم يتابعون ما يحدث عبر شاشات التلفزيون التي بدت متحمّسة ومتنافسة على الانحياز إلى الشارع اللبناني وحقوقه، كل وفق أجندتها «الإعلامية– السياسية». الأغاني التي بُثت بشكل عفوي أو غير عفوي -لا نعرف- كُتبت ولُحّنت في الثمانينات أو قُبيل تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، وهي لم تستفزّ الناس فقط لأنها باتت تمثّل مرحلة ماضية ولا تحاكي قضاياهم المطلبية اليوم بعد مرور عقود عليها، ولا فقط لأنها كُتبت لتوجيه رسائل إلى العدو الإسرائيلي في تلك المرحلة، بل أيضاً لأن غالبية مغنيها مشاركون بشكل أو بآخر في السلطة الفاسدة التي يطالب اللبنانيون اليوم بمحاسبتها ورحيلها. هم فنانون وليسوا أعضاء في حزب أو تيار أو حركة، وإنما هم مؤيدون لهذا الزعيم أو ذاك، عبر تصريحاتهم الإعلامية وأغانيهم التي تمجّد رئيساً أو زعيماً أو مشاريع و «انتصارات إلهية». ونذكر من هذه الأغاني التي سمعناها في اليومين الأول والثاني من التظاهرات، «يا شعبي» و «وين الملايين» لجوليا بطرس، وهي زوجة وزير التربية الياس أبو صعب العضو في التيار الوطني الحرّ المشارك في الحكومة الحالية التي يطالب المتظاهرين باستقالتها، والتي غنت في العام 2006 خطاب الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله بعنوان «أحبائي». و «يا بيروت» لماجدة الرومي، التي عبّرت في أكثر من مناسبة عن ميلها الى تأييد القوات اللبنانية التي يترأسها سمير جعجع والمشاركة في مجلس النواب. و «أناديكم» لأحمد قعبور، المحسوب على تيار المستقبل لكونه أحد الموظفين في «تلفزيون المستقبل»، والتي كُتبت للمقاومين على الجبهات في الجنوب اللبناني قبل أن يصبح هناك تيار اسمه «المستقبل»، يوم كان قعبور يسارياً ويوم كان هناك حركة وطنية تقاتل الاحتلال باسم الشعب اللبناني وليس باسم طوائفه. و «لازم تعرف يا محتلّ» لمعين شريف، الذي شارك في التظاهرة كفنان ومواطن «طفح كيله من الوضع السياسي اللبناني»، مع العلم أنه من مناصري قوى 8 آذار ولم يمضِ شهور على فعلته التي انتقدها جمهور لبناني عريض والتي لا تليق بفنان، وهي تقبيل زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون في احتفال ضخم. هذا عدا عن أغانٍ مناسباتية استهلاكية، مثل «قلّن إنك لبناني» لعاصي الحلاني وغيرها. هذه الأغاني البالية والمناسباتية التي تذكّر الناس بالعدوان أو الحرب أو أجندات سياسيين يروّجون لبرامجهم السياسية عبر فنانين مشهورين يستخدمونهم لحشد جماهير تتفوق على جماهير الفئة الأخرى، لم تعد صالحة لمرحلة استفاق فيها الشعب ليطالب باسترجاع حقوقه التي تحاصصتها المجموعات السياسية الحاكمة في لبنان، فهي لا تعبّر عن الحراك العفوي الذي نبع من رحم الشعب المضغوط والفقير والمستهانة كرامته. لكن هذه الأغاني فضحت الساحة الفنية الموسيقية اللبنانية التي تفتقد اليوم أغنية وطنية أو انتقادية أو اجتماعية تسخر من الطبقة السياسية الفاسدة أو تحرّض على المحاسبة وعدم السكوت عن الحق. وهي فضحت الفنانين الذين استفاقوا فجأة ليشعروا بمواطنيتهم وينزلوا الى الشارع وينضموا الى المطالبين بإسقاط النظام الطائفي الفاسد واستقالة الحكومة. والسؤال أين كان هؤلاء الفنانون، خصوصاً الذين كان لهم باع طويل في الأغاني الوطنية وارتبط اسمهم بها أيام الحرب؟ وأين كان الفنانون الذين تحمّسوا ليقفوا أمام الكاميرات في الشوارع الأسبوع الماضي؟ لماذا لم يقدّموا أغانيَ تسأل وتحاسب بدل الغناء لقائد أو زعيم أو حزب بحدّ ذاته؟ هل هم فعلاً صادقون عندما يتذكرون أنهم مواطنون وعليهم الانضمام الى الشعب؟ أم أن صورتهم وشهرتهم تتطلب منهم المشاركة لأن زملاءهم ممن عارضوا الثورات في البلدان العربية، هجرهم جمهورهم؟ على أي حال ماتت الأغنية الوطنية أو الملتزمة مع انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، التي لا تزال رواسبها تحرّك السلطة والفساد اليوم. وأصبحت هذه الأغنية المسماة «وطنية» في السنوات العشر الأخيرة تجارة رابحة في لبنان، وفرصة للانقضاض على مكان الضوء حيث الكاميرات والإعلام والمنافع الخاصة من هذا الحزب أو ذاك. وأصبح الوطن ومناسباته مطية للاستهلاك الإعلامي والفني. وكل ما يُغنّى للجيش وللأمن العام ولرئيس أو زعيم، لا يختلف عن أغاني الحب والإغراء الهابطة بشيء، لأنها تفتقد أولاً القيمة الفنية والابداعية. وهي لا تمكن تسميتها أغانيَ، بل هي أشبه بالأناشيد الحزبية التي لا تؤسس لحركة وطنية ولا لحركة فنية ملتزمة تؤثر في الناس وتحاكي همومهم وتطلعاتهم، كالتي ألفها عمر الزعني وغازي مكداش وغيرهما من لبنان قبل الحرب، أو مارسيل خليفة من لبنان خلال الحرب. هي أغانٍ مناسباتية تخضع للزبائنية الفنية– السياسية، ومغنوها هم خطباء يردّدون ما يهمس به زعماؤهم، وبالتالي هي أغان ينساها الناس بعد أيام من انتهاء عرضها على الشاشات وإذاعتها في الراديوات. فالعمل الفني والأدبي عمل ذاتي بالدرجة الأولى، وبمقدار ما تكون هذه الذات متفاعلة مع الآخرين وحقوقهم وهمومهم ومطالبهم، يصل الإنتاج الفني بصدق الى الناس. غابت الأغنية السياسية والانتقادية عن الساحة اللبنانية أو هجرتها، لأن الالتزام بالقضايا العامة المطلبية أصبح ضعيفاً أو معدوماً، بل تختطفه الأحزاب وزعماء الطوائف الذين يتعاملون مع حقوق المواطنين بزبائنية وقحة ويحوّرون المسارات الشعبية والمطلبية وفق أهدافهم وأجنداتهم السياسية. غابت الأغنية السياسية مع غياب قضية وطنية موحّدة ومع غياب القوى الحقيقية الحاضنة لهذه القضايا وغير الآبهة بفن ملتزم أو بإنتاج أعمال وطنية. أصلاً، لكل حزب وطن خيّطه على مقاس قياداته، فكيف يفكّر بأغنية أو مشروع فني جامع يؤسس لثورة أو انتفاضة؟ لكن اليوم، مع انتفاضة الشعب ووحدته حول قضايا عامة مطلبية، أولاها كان حلّ مشكلة النفايات المنتشرة بالشوارع ورفض المناقصات والمحاصصات، وصولاً الى محاربة الفساد والمحاسبة، واسترداد مجلس النواب، وانتخاب رئيس للجمهورية، ورفض التمديد، والمطالبة باستقالة الحكومة، وغيرها الكثير من المطالب التي ينادي بها المواطنون، عادت الأغنية السياسية وإن بشكل خجول، الى الساحة. وتناقل اللبنانيون أمس أفلام فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لأغنيات تحكي لغتهم وتحمل همّهم، مثل «كلن يعني كلن» لفرقة «الراحل الكبير» و «الوسخ التجاري» لفرقة «الطفار» اللتين تميّزتا بلغة صادقة ساخرة ومباشرة غير مبتذلة. وعنوان أغنية «الراحل الكبير» التي سبق أن انتقدت الحركات المتطرفة مثل «داعش»، مستوحى من أحد الشعارات التي يردّدها المواطنون في الشارع وهي «كلكن يعني كلكن». وقد ركب الموجة «خطباء الفن»، مثل علاء زلزلي وشادي فرح ومنشد «حزب الله» علي بركات وفؤاد يمين وغيرهم ممن يحاولون اقتناص الفرصة لإصدار أغان أو أناشيد لا تليق بتظاهرة أو انتفاضة حقيقية وصادقة كالتي جرت أمس. لكن الفنانين الحقيقيين وخصوصاً الشباب مثل خالد صبيح وعبد قبيسي وساندي شمعون وعماد حشيشو ونعيم الأسمر وعلي الحوت وأحمد الخطيب، الذين أطلقوا أمس «كلكن يعني كلكن» ساخرين من كل الطبقة السياسية الحاكمة وتجاوزاتها والداعمين للحراك الشعبي، هم أمل الأغنية السياسية اللبنانية التي ستأتي ولو متأخرة.
مشاركة :