بيروت كانت ولا تزال ملهمة الفنانين سواء من اللبنانيين أو أولئك الذين مروا بها، وأقاموا فيها ولو لليلة واحدة. وبيروت مدينة التناقضات والمفارقات أضحت منذ ثورة 17 أكتوبر 2019، وقبلها، أكثر من مدينة أشعّت بألوانها وأضوائها على رسّاميها، لتغدو سردية بصرية تروي مأساتها عبر لوحات ما انفكت تتشكّل مع كل فجر يوم أليم. منذ أواخر سنة 2019، ووجوه بيروت المُتبدّلة تنمو على أسطح اللوحات. المقصود هنا ليس اللوحات التي تصف شارعا بيروتيا دون آخر، بل المقصود تلك اللوحات التي استأصلت من روح بيروت أسرارها وآلامها أو انكفاءاتها لتظهرها في العلن. بيروت في اللوحات المعاصرة، ولاسيما تلك التي رسمها الفنانون خلال السنوات الخمس الأخيرة قادرة على ترسيخ هوية بصرية مزجت الواقعي بالغرائبي لتنطق بتاريخ العاصمة الحديث وحياتها وتطلعاتها من قلب موت “طفيف”، إذا صح التعبير، ارتداها عنوة ولم يحل فيها. وعلى سبيل المثال وليس الحصر نذكر أسماء هؤلاء الفنانين: الفنان عمر فاخوري والفنان شربل صامويل عون والفنان محمد المفتي والفنان سعيد بعلبكي. هؤلاء “ألّفوا” سيرة بصرية مُقتضبة ومُكثفة جدا تكاد السنوات الخمس الأخيرة تختصر كل ما كانت بيروت عليه ولا تزال، وربما أيضا كل ما ستصبح عليه بيروت كعاصمة من بين عواصم بلدان العالم المُختبرة لأزمة وجودية وأخلاقية حادة. خمس سنوات استطاعت أن تشكّل وجه بيروت في أعمال هؤلاء الفنانين، خمس سنوات من الضغط الاقتصادي المتصاعد والانفلات الأمني وهجرة أهل البلد واجتياح أفواج من المهاجرين المنكوبين للبنان بشكل عام، وانطلاق ثورة مبتورة الأطراف لا تزال حية حتى الآن، وانفجار وُصف بالنووي طمره “أولياؤه” هو ونتائجه وأسبابه تحت تراب اهتراء القيم الإنسانية واندلاع حرائق اجتاح غابات لبنان بشكل غير مسبوق وفساد سياسي فاق حدود كل أنواع الفساد المستشري في العالم. وصولا إلى تفشي وباء كوفيد – 19 الذي حصد الكثير من الأحبة ووصل في تفشيه إلى حدّ قياسي في الفترة الأخيرة مدعوما باستهتار شعب تخدّرت مشاعره، وأحيانا كثيرة تخدّر ضميره، وبتسلّط دولة متقاعسة ومُهملة ومُفلسة هي امتداد طبيعي لسابقاتها. خمس سنوات من القهر المُكثف تسرّب إلى وجدان الفنانين على مراحل لينتج أعمال هي أشبه بلقطات سينمائية متعاقبة تقول كل ما نودّ أن نعرفه عن بيروت اليوم. بداية نذكر معرضا أُقيم في صالة “أجيال” تعرّف خلاله المُشاهد على مجموعة من لوحات للفنان عمر فاخوري تصوّر قاعدات حجرية أو إسمنتية مختلفة الأشكال والضخامة، صُنعت لكي تحمل في الساحات العامة أنصابا تذكارية لرجال سياسة أو اقتصاد شاركوا في تشكيل وجه لبنان الحديث، ولكن لا يزال معظم اللبنانيين يختلفون في ما بينهم حول عظمتهم أو حول مدى تجريمهم أو احتقارهم لهم، لذلك غيّبهم الفنان ولم يُبق إلّا على برودة الرخام الأبيض وتفاهة المساحة المحيطة به التي محا معالمها بتجريدية أراد بها التقليل من أهميتها. ونذكر في هذا السياق أيضا الفنان محمد المفتي السوري الجنسية الذي يعيش في لبنان منذ أكثر من ثماني سنوات، والذي قدّم معرضا بعنوان “ومن ثمّ السكون..” في صالة “رميل 33” الفنية قبيل انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر الصالة. استطاع الفنان أن يسرد قصة مدينة بيروت منذ اندلاع الثورة وحتى تفشي وباء كورونا وانتشار الصمت القاتل في الشوارع بسبب الحجر. وأكثر ما ميّز أعماله الفنية أنها احتفظت بارتباطها ببعضها البعض وإن عبّرت عن مراحل مختلفة من حياة العاصمة. نذكر إحدى أهمّ لوحاته التي حملت عنوان “ومن بعد يوم آخر”، ويظهر فيها وسط بيروت بأبنيته التراثية والحديثة على السواء. الشارع مقفر كما هو في الحاضر بسبب الحجر الصحي، ولكنه غير فارغ من مجموعة بالونات ملونة مكتوب عليها اسم بيروت: بيروت ساحات التظاهر وبيروت الأمل الهش. لوحات رائية أما الفنان اللبناني المتعدد الوسائط شربل صامويل عون فلم يتوقف عن تقديمه لمعارض تنذر بأحلك الأيام. نذكر تحديدا معرضه “نيكروبولس”، أي مدينة الموتى. معرض نعتبره اليوم رائيا بكل ما تعني الكلمة من معنى، لأنه تكلم عن كابوس عام قد تحقّق اليوم وعلى أكثر من صعيد. وجد الكثيرون في العنوان الكثير من التشاؤم، غير أن ما أراد الفنان التعبير عنه ليس هو ما ستكون عليه المدينة، إذا ما استمرت في محاربة صورتها الأصلية. حضرت بيروت بقوة في لوحات ذات رؤية كارثية، مشغولة بعصبية فائقة وهدوء متزن على حدّ السواء، ليسا إلّا انعكاسا لشخصية فنان متورّط إلى ما فوق رأسه بقضايا وطنه. ولم يخرج الفنان سعيد بعلبكي عن الأجواء الفكرية التي أغنت نص الفنان شربل صامويل عون في معارضه الفنية، بل جاءت امتدادا لمزاج “أبوكاليبتيكي” ترعرع في كنف بلد تشابكت فيه كل مصالح المنطقة والعالم. الفنان المقيم في برلين قدّم في معرضه الذي أقامه في صالة “أجيال” مجموعة منتقاة من ثلاثة كتب منجزة بالطباعة الحجرية، أي الليتوغرافي. ثلاثة كتب وأعمال فنية مُثقلة بهواجس الفنان اللبناني المتعلقة بالخراب والنسيان والذاكرة والهجرة. قارب الفنان الحرب اللبنانية وكأنها وحش مُدمى، أكثر ممّا هو دام، إذ لم يُقتل تماما ونسله مستمر إلى ما بعد اتفاق الطائف الشهير. وتجلى ذلك في حدّه الأقصى عبر مجموعة منتقاة من كتاب “وادي أبوجميل” المشغولة بالأسود والأبيض، والتي تظهر فيها أبنية مُتصدّعة يخترقها الفراغ من كل جهة، ولكنها في الواقع ليست مُدمّرة، بل هي أبنية قيد الإنشاء. أراد الفنان اللبناني من خلال هذه الأعمال أن يجسّد الفترة التي تلت الحرب مباشرة والتي عرفت باسم “ورشة الإعمار” وحملت إلى الآن ارتدادات عميقة للآمال المُخيّبة. هذه هي بيروت اليوم وربما ليس إلى الأبد، ولا ينفع التخفي حول صور وردية زائفة.
مشاركة :