وَحْيُ المعَاني (1-2)

  • 1/23/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لا تسمّوا البضائع الغالية إلا بحمَّال يعرفها، ويزنُ قيمتها، ويحسنُ العناية في رَصفِها، فيصنعُ بقدرتهِ الِنظام، ويكتمِلُ في لوحتهِ الإنسِجام، فإن وقعت بحمَّالٍ ساذجٍ، سقطت من إحكامهِ، وتناثرت من يديه، حتى يضيعُ نورقها، وتُمسح ملامحها، ويهتِكُ بما اقترفت يداهُ جمالها.وبمثل تلك البضائع تكون المعاني، فإنها متروكةً يعرفها كل عاقل، فتُحمل بالفاظٍ يحسنُ الأديبُ بتخيرها كلامه، ليضيف لها الجمال بحسنِ نظمه، وتكامل حسهِ، وتناغمِ وزنه، وبيان لِسانه، بأفكارٍ يحيكُها بعنايته، ويبعثُ سحرها بعظمِ شاعريته، فُيحيي ما خطهُ بالقصبِ الى معانٍ تُحاكُ الفاظها بالذهب.ولهذا عوَّل أساطين النقدِ العربي على اللفظِ وجعلوه قيمةً لكلِ معنىً لطيف، وسبيلًا لكل مقصدٍ شريف، فهو كحليةٍ تحيا ببريقها الصور، وتُنشر بحسنِ رصفها الدرر، بأساليبٍ تحفظُ المغزى ودلالاتِه، وتقود النص لجماله، وتعاظم بهائه، ببراعةِ اختيار الشاعر لألفاظه، وانسياب قوافيه، ودقةِ اوصافه، اما المعاني فهي جامدةٌ حتى يحركها الإبداع الأدبي بالفن والصنعة، فبدأ الجاحظ بوصفها بأنها مطروحةً في الطريق يعرفها العَجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامةِ الوزن، وتخير اللفظ، وسهولةِ المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك.وتبعهُ في ذلك أغلب النقاد مثل أبو هلال العسكري بقولهِ: «إن المعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي، وإنما تتفاضل في الألفاظ ورَصفها وتأليفها ونظمها»، والآمدي بقوله: «وليس الشعر عند اهل العلم بهِ إلا حسن التأني وقرب المأخذ، وإختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها»، حتى شاع هذا الرأي ليصل إلى نقاد القرن الثامنِ الهجري مثل إبن خلدون الذي يقول: «إن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني».ولم نرى معارضًا للجاحظ من النقاد والأدباء إلا ابن قتيبة القائل بإن البلاغة تكون في المعاني كما تكون في الألفاظ. والدارسُ للشعر يلاحظُ ما حلَّ بهِ في نهاية القرن الثالث وبدايةِ القرنِ الرابع الهجري، من فتورٍ بعد حماسة، وتضاعفٍ بعد قوة، فبقي الشعراء يعيدون المعاني القديمة، ويحورون في الفاظها، ويطَعِّمونَها بالتعقيدِ والغرابة والمبالغة، حتى داروا بحلقاتهم المغلقة، بمعاني اسلافهم المستهلكة والفاظهم المعادة، وكأن المعاني محصورةً في عقول الأوائل، لتعاد بالتحوير والتداول، والصبِ على قوالبها عند المحدثين، ما جعل النقاد يفتحون دراساتٍ واسعة في كتبهم كما نجد في والوساطة والموازنة والشعر والشعراء والعمدة وغيرها، لتُصبِح تلك الكتب مراجعًا في معرفة الشعرِ واحواله، ودالةً على بلاغة صُنَّاعه، بنقدٍ يبحثون فيه عن معانيهم وادوات سرقاتهم ومراوغةِ المعاني القديمة بألفاظهم، ومن جهةٍ أُخرى أُلِفت كُتبٍ خاصة في السرقات جَنت على كبار الشعراء، مثل مهلهل بن ميمون في سرقات ابي نواس، وابن ابي طاهر و ابن عمَّار في سرقات ابي تمام، وابو سعد العميدي وغيره في سرقات المتنبي، ولكن كل هذه الكتبِ الخاصةِ خرجت لاصطياد المعاني، مبتعدةً عن شرح الفن والصنعةِ والأسلوب لدى فحولةِ الشعراء، فالنقد عندهم لنصرةِ شاعر وإسقاط آخر، أو لمبارزةِ الشعراء في صناعتهم، وتوهينِ منزلتهم، والإنتقامِ من شهرتهم، ما جعل القاضي الجرجاني الذي يعد من نقاد القرن الرابع وشعرائه يثور على ذلك النقد السطحي في الكتب الخاصةِ ويشهد بإن السرقات ضرورة من ضرورات عصره في صناعة الشعر ونماذجه، وهو يلاحظ انها قديمةٌ في الفنِ العربي، فالعبرةُ عنده في إخراج النصِ، أما المعنى فهو موجودٌ بذاته، يستطيع كل عاقلٍ إدراكه، وهو كذلك رأي صاحب الصناعتين الذي قسَّم السرقات لقسمين مستحبةً ومُنكرة، فالمستحبة هي التي يعمد الشاعر الى إضافة الصور والعبارات من ذاته، واما المنكرة فهي التي لا يستطيع أن يضيف إليها شيئًا من ذلك.اذًا العبرة هنا في جمال الإخراج وحسن الطبعِ وسلامته وتعاظم الشاعرية في صانعه، فكم من فكرةٍ موروثةٍ سبقت بجمالها الأصل، فزادت من نورقها وأوضحت بديع خطبها، كما عُرف عن البحتري في سرقاته من ابي تمام، الذي فاق أستاذه بمرونةِ ألفاظه ووضوح صوره، وعذوبةِ معانيه، ورشاقة مبانيه، أو كما نراهُ في الشعرِ الغربي الذي كان يعالج الموضوعات نفسها فيبدأ الشاعر القصصي بعرض اسطورته، ويأتي بعده الشاعر الغنائي ليحولها لمقطوعة غنائية، ثم يستلمها الشاعر التمثيلي فيحولها الى روايةٍ تمثيلية، فالقيمة الحقيقية بما ينتجه ذلك العقل الإبداعي في إظهار معانٍ قد تكون موروثة فيضيف لها الألفاظ البديعة، والأساليب البهية، فتخرج من عنده بأبهى صورة، وأدق مغزى وأروعِ عبارة، وأنصعِ جوده.ولأجل ذلِك يجب ان نعرف إن ثقافة الأديب، وسعةِ خياله، وانطلاق حماسته، وتعاظم شاعريته، ودراستهُ لكلِ فنٍ وفكرٍ وفلسفة وعلم، هي التي تحيي القريحةَ فيه وتنير عقله بشعاعِ المعاني التي تسقي الفاظه فتستلمها شاعريته ليحولها لقوافٍ رشيقةً في مبانيها، بديعةً في أوزانها، رصينةً في إِحكامها، فإن كان المعنى خاملٌ أحياه، وبعثه للناس بروحه وعبقريةِ تصويره. وبهذا أُذِنَ للشعر أنْ يحيا ببعثِ أبي الطيب المتنبي ليلوِّحُ للعامة بشاعريته، والخاصة بسعة علمه واطلاعه، فقد جعل الثقافة الواسعة التي عاصرها منذ نعومةِ أظفاره من مدارس العلويين في الكوفة، إلى تنوع الثقافات عنده دينيةٍ وعلميَّةٍ ولغويَّةٍ وفلسفية، فلم تقف دراستهُ لحدود الشعراء الذين سبقوه، بل جعل شعره يبحر في كل المعاني الذي تعلمها ولا يزال يتعلمها حتى قُتل، فمِنَ المعروفِ عنه إنه في كل هجرة يحرص بعناية على حملِ مكتبتهِ معه، ليهم بالمراجعة في كل خلوةٍ مع ذاته، فيستخرج من معاني العلوم أشعاره، وينشر الحكم البالغة من سعة اطلاعه، ويتصنع المذاهب والأديان، ويحيك حكمه بالفلسفة وعلم الكلام.يتبع...

مشاركة :