وَحْيُ المعَاني (2-2)

  • 1/30/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تناولنا في الحلقة الأولى شاعرية أبي الطيب المتنبي، وسعة علمه واطلاعه الثقافي، إلى جانب التنوع على الصعيد الديني، والعلمي، واللغوي والفلسفي، ونستكملُ في هذه الحلقة، التوسع في جوانبه المعرفية، فقد استطاع شاعرنا أن يحوِّل فلسفةِ أرسطاليس الى أبياتِ عِبرةٍ تهاجرُ من شدقيهِ إلى الأمصارِ البعيده، فتنشرها الناس لحكمتها، وبديع نظمها مثل قوله: «لَعَلّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ.. فرُبّمَا صَحّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ»، لنرى أصل هذا البيت عند أرسطاليس بقوله: «قد يفسد العضو لصلاحِ أوضاع، كالكلى والفصد اللذين يُفسدان الأعضاء لصلاحِ غيرهما».وكقوله: «ومَنْ يُنفِقِ السّاعاتِ في جمعِ مالِهِ.. مَخافَةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفَقْرُ»، المأخوذة كذلك من قول أرسطاليس «من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسهُ للعدم»، وبقوله: «يُرَادُ من القلبِ نسيانُكُمْ.. وتأبى الطباعُ على النَّاقلِ»، وأصله عند ارسطاليس: «رومُ نقل الطِباع من رديء الأطماع شديدُ الإمتناع».فحاك فلسفته الشعرية، بحكمٍ عقلية وكلامية دقيقة، وصناعةٍ فنيةٍ وبلاغيةٍ عميقة، ولم يكن شاعراً تقليدياً، يعيد ويحور ويقف على أطلالِ من سبقوه، بل جعل معرفته الواسعة بالفلسفةِ تخدم قوافيه، كما جعل علمه بالأديان يُضيف لذةً لشاعريته، مثل البيت الذي مدح فيه كافور الأخشيدي بقوله: «وَكَمْ لظَلامِ اللّيْلِ عِندَكَ من يَدٍ.. تُخَبِّرُ أنّ المَانَوِيّةَ تَكْذِبُ»، فالمانوية هنا ديانةً تنسب الى ماني، القائل بالنورِ والظلمة، وإن الخير كله من النور، والشر كله من الظلمة، ولأن صاحبهُ الذي يمدحه عبداً أسوداً، أشار الى كرمهِ الذي يخرج من سواده ليُكَذب دين ماني الذي يدَّعي نقيض ذلك.أما علمهُ بالمذاهبِ فقد أثرى به ديوانه، كما نرى في تصنعه لعقائدِ الصوفية ليرضي ممدوحه بقوله: «ذا السّراجُ المُنِيرُ هذا النّقيُّ الـ.. ـجَيْبِ هذا بَقِيّةُ الأبْدال»، فهو في هذا البيت يجعل صاحبه من بقية الأبدال، ويشير العكبري في شرح هذا البيت بقوله «الأبدال سموا أبدالاً لأنهم أبدال الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه في إجابةِ دعواتهم ونصحهم للخلق، وقيل إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر، فهم لا ينقضون حتى تقوم الساعة». ويتابع شاعرنا في نفس القصيدة بقوله: «فَخُذا ماءَ رِجْلِهِ وانْضِحا في الـ.. ـمُدْنِ تأمَنْ بَوائِقَ الزّلْزَالِ»، فتراه يواصل في مدح ممدوحه وكأنه يتحدث عن أحد الأولياء، فيأمر الناس أخذ الماء من تحت رجله لترش على المدن حتى تأمن من بوائق الزلزال، ولم يكتفي بهذا الحد، بل يواصل في مبالغتهِ حد الغلو ليقول: «وامْسَحَا ثَوْبَهُ البَقيرَ على دا.. كُما تُشْفَيَا مِنَ الإعْلالِ»، فتكمل الصورة هنا في مبالغة غريبة يصف فيها صاحبه بإنه بمسحة من ثوبه تشفى كل عله!أصبح المتنبي موسوعةٌ للعلم عند العامة، وشاغلٌ للعلماء والفقهاء والمتكلمين في مجالسهمِ الخاصة، مثل نادرة زمانه الفقيه الصاحب بن عباد الذي علق على قوله: «نحنُ من ضايق الزمانُ له فيـ..ك وخانتْهُ قُرْبك الأيَّامُ»، بقوله: «إنه لو وقع في عبارات الجُنيد والشِّبلي لتنازعتهُ المتصوفة دهراً بعيدا».إستحق ابي الطيب المتنبي أن يكون شاعر المرحلة التي نهضت بالشعر بعد ركوده إلى أسمى ثقافة وأروع جودة بتصنع غريب وأساليب غير مألفوفة، فما جعل بيئةٍ دينية ومذهبية أو فلسفية وكلامية إلا وتكلفها في شعره، وحول معانيها الى ديباجةٍ عجزت الشعراء في تصنعها، وأرهقت العلماء في تتبعها، حتى قال متحدياً الخلق كله: «أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا.. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ».فقد فتح بعبقريتهِ، وإجتهاده، بابًا جديدًا للشعراء بعده، حتى يكونوا أهل قيمة علميةٍ وفلسفيةٍ عميقة في صناعتهم، وأن لا يقفوا أمام المعاني بجمودهم، بل يحاولون الوصول الى أعماقها لينشروا معنى الإجتهاد بفنهم، ويصنعون النهضة بسمو قرائحهم، فالشاعرية للشاعر نعمةً موروثة، وثقافته حصيلةً مكتسبة.

مشاركة :