بعد أشهر من توتر العلاقات الثنائية بسبب الحدود البحرية وحقوق التنقيب عن الغاز، من المنتظر أن يستأنف الدبلوماسيون الأتراك واليونانيون المحادثات حول النزاعات الإقليمية القديمة في بحر إيجه في 25 يناير في إسطنبول. هذا الاجتماع قد يكسر جمود المحادثات القائم منذ خمس سنوات تقريباً، لكن يبقى احتمال وقف تصعيد الخلاف وبناء الثقة بعيد المنال. يريد الجانب اليوناني أن يحدّ من النقاش حول ترسيم حدود المناطق البحرية، في حين ترغب تركيا في التناقش أيضاً حول مكانة جزر بحر إيجة الشرقية والجزر الصغيرة التي تعتبر "ملكيتها غير محددة"، ومن المتوقع أن يرأس نائب وزير الخارجية التركي سيدات أونال والدبلوماسي اليوناني المخضرم بافلوس أبوستوليديس الاجتماع المرتقب، لكن من المستبعد أن يحقق هذا اللقاء أي إنجاز بارز على المدى القصير. وافقت أنقرة على استئناف المحادثات رغم كل شيء، مع أنها كانت تتكل حتى الفترة الأخيرة على استعراض القوة والدبلوماسية القسرية مع اليونان، فما سبب هذا التغيير الجذري؟ يبدو أن الأسباب لا تتعلق بتحولات سياسية داخل أنقرة بل بعوامل خارجية. يرتبط العامل الخارجي الأساسي بتغيّر قاطن البيت الأبيض، وسيؤدي رحيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى حرمان أنقرة من مساعدها الأساسي في واشنطن في آخر أربع سنوات، ومن المستبعد أن تكون إدارة الرئيس جو بايدن متساهلة مع تركيا بالقدر نفسه، حتى أنها قد تنسّق مواقفها الأكثر صرامة مع الاتحاد الأوروبي. يحمل قرار أنقرة باستئناف المحادثات مع اليونان رسالة إلى إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي قبيل قمم حلف الناتو والاتحاد. خلال قمة حلف الناتو في بروكسل في 17 فبراير المقبل، من المنتظر أن يناقش بايدن وقادة الاتحاد الأوروبي القرارات المشتركة حول تركيا، لذا تريد أنقرة أن تثبت التزامها بالجهود الدبلوماسية مع اليونان قبل تلك القمة، مع أنها لا تتوقع تحقيق نتائج كبرى خلال المحادثات. يكثر الحديث في أنقرة عن تكثيف الجهود لترتيب لقاء بين أردوغان وبايدن على هامش القمة، وتفيد التقارير بأن أردوغان أطلق محاولات عدة لإجراء مكالمة هاتفية مع بايدن خلال الشهر الماضي، لكنه لم ينجح حتى الآن، ستكون موافقة بايدن على مقابلة أردوغان في بروكسل مؤشراً مهماً حول مسار العلاقات التركية الأميركية خلال الأشهر المقبلة. يتعلق حدث مهم آخر بالنسبة إلى أنقرة بقمة الاتحاد الأوروبي في شهر مارس المقبل، فقد انتهت القمة السابقة في ديسمبر بقرار تأجيل المناقشات حول أي عقوبات محتملة ضد تركيا بسبب "نشاطات التنقيب غير المصرّح بها في شرق البحر الأبيض المتوسط" إلى القمة اللاحقة في شهر مارس، فقد ذكر البيان الصادر عن المجلس الأوروبي: "سيحاول الاتحاد الأوروبي تنسيق جهوده مع الولايات المتحدة في المسائل المرتبطة بتركيا والوضع القائم في شرق البحر الأبيض المتوسط". تتوق أنقرة إلى إثبات رغبتها في عدم تصعيد الوضع على طاولة المفاوضات وميدانياً، فاليوم ترسو سفينة المسح الزلزالي "أوروتش ريس"، التي بحثت عن الغاز في مياه البحر الأبيض المتوسط طوال الصيف، في خليج أنطاليا وستبقى هناك حتى 15 يونيو. أدى استئناف المحادثات مع اليونان إلى اضطراب الأوساط القومية في تركيا، بما في ذلك الأميرالات والجنرالات المتقاعدين الذين يشتبهون بنوايا الغرب، فهم يعتبرون هذه المحادثات غير مجدية أو مجرّد حيلة دبلوماسية لإلهاء تركيا في حين تحقق اليونان مصالحها ميدانياً. يظن الأميرال المتقاعد جيم غوردينيز الذي يُعتبر مهندس مفهوم "الوطن الأزرق" (يدافع هذا المبدأ عن التوسّع الجيوسياسي التركي وحماية المصالح البحرية بطرق عدائية) أن وزارة الخارجية التركية كانت متساهلة أكثر من اللزوم خلال المحادثات الاستكشافية وأن استئنافها الآن يهدد ركائز "الوطن الأزرق". صرّح غوردينيز لوسائل الإعلام هذا الأسبوع بأن تركيا كانت تقترب من مرحلة جيوسياسية مفصلية، حيث تضطر لاتخاذ قرار حاسم حول متابعة الاصطفاف مع الكتلة الأمنية الغربية في شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة أو تفضّل تطبيق استراتيجيات مستقلة لحماية مصالحها. ثم هاجم الحكومة لأنها تخلّت عن موقفها المتشدد في خلافها مع اليونان، فقال: "لا يمكن التحكم بوضع تركيا الجيوسياسي عبر هذه التقلبات المتواصلة". باختصار، يبدو أن موافقة أنقرة على استئناف المحادثات مع اليونان هي مجرّد مبادرة للتقرب من إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي. يمكن قول الأمر نفسه عن أثينا، إذ ستُحقق الوفود التركية واليونانية هذا الهدف حين تقف جنباً إلى جنب لالتقاط صور جماعية في الغرفة نفسها في 25 يناير.
مشاركة :