نهاية الشهر الماضي أفاقت البريطانية كيت سيل 43 عاماً على آلام مبرحة في جسدها، لتجد نفسها غير قادرة على تحريك أطرافها، واعتراها الذهول عندما وجدت نفسها مستلقية أسفل درج منزلها تصرخ من شدة الألم لتكتشف بعد ذلك أنها سقطت من أعلى الدرج خلال سيرها نائمة، بعد ذلك أظهرت الأشعة الطبية الدقيقة تعرض سيل لعدة كسور في 10 مناطق متفرقة من جسدها وإن كان الأسوأ كسور فقرات الرقبة، والظهر، إضافة إلى شروخ في الجمجمة، وإصابات متعددة بمنطقة الحبل الشوكي ما تسبب في إصابتها بعجز كامل عن الحركة، المفارقة أن سيل وعائلتها كانوا على معرفة بإصابتها بداء المشي خلال النوم، لكنهم لم يتوقعوا حدوث كارثة بسبب هذه الحالة، ولم يقصدوا طبيباً لتلقي العلاج، بل على العكس كان الأمر غالباً محل دعابات بينها وبين زوجها الذي أكد انه لا يشعر بزوجته عندما تنتابها حالة المشي نوماً. زادت معاناة سيل من كسورها نظراً لبعد سكنها في ضاحية سودبري الهادئة في بريستول عن أقرب مستشفى ما اضطر فريق الإسعاف إلى استدعاء اختصاصيين في العظام لمساعدتهم في نقلها إلى مستشفى آخر بعيد وسط لندن حيث أدخلت على الفور العناية الفائقة لمدة 6 أيام لم يتوقع خلالها الأطباء لها النجاة خاصة بعد اكتشاف تجمع دموي كبير حول منطقة الرئة، إلا ان العناية الإلهية شملتها حتى تخطت مرحلة الخطر، ثم انتقلت إلى غرفة بالمستشفى حيث ستخضع لإشراف طبي دقيق على مدار شهر كامل، لم يتوقع أحد من أفراد عائلتها مواجهة سيل هذا المصير بسبب المشي خلال النوم، وإلى جانب آلامها الشديدة، ستبقى رهينة معاناتها النفسية بسبب قضاءها المتبقي من عمرها رهينة الفراش. أعادت حالة سيل، باعتبارها الأحدث عالمياً إلى الواجهة المخاطر المترتبة على معاناة السائرون نياماً وهي الحالة التي لم يعثر الطب الحديث على علاج مناسب لها حتى اليوم، ولا تقتصر مشاكل المشي خلال النوم على معاناة المصابين به، بل تمتد إلى آخرين ربما يتعرضون إلى أذاهم وهو ما اهتمت به عشرات من دراسات طب الأعصاب خاصة بعد طرح سؤال مهم حول مدى مسؤولية السائر النائم عن تصرفاته من الناحية القانونية. الحالة الأشهر للسير نوماً كانت في صباح 24 مارس/آذار 1987 عندما قاد الكندي كينيث باركس 23 عاماً سيارته لمسافة 14 ميلاً حتى وصل إلى منزل أصهاره، واعتدى على حماه بالضرب والخنق، ثم طعن حماته عدة طعنات أودت بحياتها، وبعد وقت قصير ألقت الشرطة القبض عليه، واستمرت محاكمته أكثر من عام حصل بعدها على البراءة بعدما نجح محاميه في الحصول على شهادة طبية موثقة من 5 أطباء أعصاب تثبت معاناته من مرض المشي خلال النوم، وأثبت محاميه أن موكله ارتكب جريمته وهو نائم، ووفقاً للقاعدة القانونية الشك يفسر دوماً في صالح المتهم أصدرت المحكمة حكم البراءة، وبعد حوالي 10 أعوام جسدت السينما هذه القصة في فيلم شهير بعنوانالقاتل النائم لعبت بطولته هيلاري سوانك وجيفري نوردلينج وتشارلز ايستن، ومن إخراج جون كوسجروف. وفي عام 2005 توجه الأمريكي أوديو بالي إلى مركز علاج اضطرابات النوم بمدينة مينا بوليس ولاية مينسوتا بصحبة زوجته التي قصت على الطبيب المعالج مشاهد مفزعة لتصرفات زوجها الشاب 26 عاماً خلال نومه، وعبرت عن مخاوفها من إيذاء نفسه، وقالت للطبيب إنهما تزوجا حديثاً، وأنها تفزع من سلوكه ليلاً، لكنها أكدت أنه لم يكن مؤذياً. استغرقت إجراءات الفحص الطبي للزوج، والتخطيط الدماغي وجلسات العلاج الأولية 6 أشهر، انقطع بعدها بالى عن الذهاب إلى المركز، وبالتحري عن سبب غيابه المفاجىء ذهل الطبيب المعالج عند معرفته أن أوديو بالى رهن اعتقال الشرطة بعد اتهامه بقتل زوجته ليلاً. أما أكثر الحالات غرابة، وأقدمها فيمكن العثور عليه في الأدب الإيطالي الذي رصدت إحدى رواياته قصة حقيقية عن قتل حطاب في سيسيليا زوجته بالفأس عام 1791 وحصوله على البراءة بعدما نجح في إقناع الكنيسة الجهة المنوط بها معاقبة المجرمين في ذلك الوقت إنه كان نائماً وقت اعتدائه على زوجته. مجلة ساينتيفك أمريكان مايند استعرضت في تقرير لها عن اضطرابات النوم حالات السائرون نياماً وأشارت إلى أن دراسات تصوير الدماغ أظهرت استيقاظ أجزاء معينة من المخ خلال نوم الشخص الذي يعاني من المشي خلال النوم وأشارت إلى أنه من الممكن رصد بدايات المعاناة من هذه الحالة المرضية التي تبدأ عادة بالضرب، والركل، وارتكاب أفعال عدوانية أخرى خلال النوم. أشار تقرير المجلة إلى أن عدداً كبيراً من الدراسات الحديثة أشار إلى أن العنف خلال النوم لم يعد تهديداً عادياً، ففي مراجعة تمت 2010 على ما يقرب من 20000 مريض في 6 دول أوروبية كانت النتيجة أن 1.7% أشاروا إلى معاناتهم من تصرفات خطرة خلال النوم تتراوح من جذب شعر الرأس، والعض على النواجذ، وتصل إلى العبث بالأجهزة الكهربية على نحو يهدد السلامة الشخصية ويعرض الآخرين للخطر. لطالما عرفنا حالات المشي والكلام أثناء النوم، لكن علم الأعصاب الحديث أصبح مطالباً اليوم بتقديم دراسات جادة عن العنف خلال النوم وكيف يمكن إثبات حالة النوم أو اليقظة، وهل يفلت من العقاب كل شخص يرتكب جريمة خلال نومه؟ وكيف يمكن أن تستيقظ أجزاء من الدماغ تدفع صاحبها للقيادة، والقتل، أو الانتحار وغيرها بينما تغط الأجزاء الأخرى في نوم عميق؟ إضافة إلى كيفية تحديد مستوى الوعي أثناء النوم أو اليقظة، وأي الأجزاء يجب أن تكون مستيقظة لارتكاب أعمال ما عمداً مع إدراك العواقب المترتبة عليها؟ براءة القاتل النائم حصل الأمريكى أوديو بالى على البراءة من تهمة قتل زوجته وكانت إفادة طبيب الأعصاب بورنمان ماهوالد السبب، كانت البداية عندما استعان الزوج المتهم بقتل زوجته برابطة الطب الجنائى وعلى الفور تولى بورنمان ملف القضية واطلع على تقرير الشرطة، ومحاضر الاستجواب، وزار منزل المتهم، وحصل على فيديو يتضمن محاكاة بالكمبيوتر لمساعدته فى تركيب الأحداث التى أدت إلى ارتكاب الجريمة، وأعاد الاستماع إلى صيغة الاتصال الهاتفي الذي أجراه الزوج ليلة الحادث بمركز خدمة الطوارىء وقال فيه: ثمة شخص ميت وعندما سأله الموظف أين؟ قال فى منزلهم هنا تأكد بورنمان أن الزوج كان نائماً لأنه قال شخص ميت وليس زوجتي، كما قال منزلهم وليس منزلي فبدا وكأنه لا يعرف من هو ومن هي المرأة الضحية، وماذا حدث. طب النوم الجنائي يدرس الخطل اعتقد الكثيرون لسنوات طويلة أن المرء إما أن يكون نائماً أو مستيقظاً، بينما يشير العلم إلى أن هناك حالات مختلفة من اللاوعي، ودورات متعددة من النوم، وأن حالتنا ليست نوماً أو يقظة فقط، أو أبيض وأسود فقط، لكن النوم يمتد عبر طيف واسع من الحالات. في عام 2010 نشرت مجلة علم الأعصاب 21 حالة لسائرين نياماً اتهموا بارتكاب جرائم قتل واعتداء حصل منهم 9 على البراءة، لكن العدد نفسه كان كافياً لدفع عدد من علماء الأعصاب إلى التخصص في دراسة الحالات التي يمر بها الدماغ عند الخلود إلى النوم. وأظهرت مخططات إشارات الدماغ الكهربائية أن النصفين الأيسر والأيمن من الدماغ يعانيان زيادة فجائية في الأنشطة في أوقات مختلفة من النوم في حركات العينين غير السريعة، وهذا يدل على أن المناطق المختلفة من الدماغ لا تخلد إلى النوم معاً في لحظة واحدة. الطبيب الأمريكي بورنمان ماهوالد مدير مركز اضطرابات النوم في مينيسوتا بالولايات المتحدة أسس كياناً مستقلاً 2006 أطلق عليه رابطة النوم الجنائي يعمل فيه إلى جانبه عشرات الاستشاريين في مجال خطل النوم، وهو مصطلح تنضوي تحته كل السلوكيات غير المرغوب فيها أثناء النوم. الرابطة بوصفها مكتب تحريات جنائية علمية، تعاملت حتى اليوم مع 250 حالة، قسمت بالتساوي بين العمل لمصلحة الادعاء، والعمل لمصلحة الدفاع، والهدف الرئيسي ليس مجرد تقديم رأي طبي يدعم حكماً قضائياً، بل محاولة الكشف عن الحقيقة. وشغلت حوادث العنف خلال النوم كثيراً من أطباء الأعصاب الأمريكيين خلال السنوات الأخيرة، خاصة أن أحدث الإحصاءات تشير إلى وجود 40 مليون أمريكي يعالجون في وحدات اضطرابات النوم، و2 من كل 10 يرتكبون سلوكيات عنيفة متفاوتة الدرجات خلال نومهم. طبيب الأعصاب الأمريكي الشهير كارل كرويكر من جامعة ولاية بوسطن كتب مقالاً عام 2011 في مجلة الأعصاب تحت عنوان النوم الموضعي المعتمد على الاستعمال أكد فيه صحة نظرية النوم الموضعي التي ظهرت للمرة الأولى عام 1993 وقوبلت بهجوم علمي شديد، وقال إنها نظرية صحيحة تماماً، لأن العلم الحديث أثبت أنه يمكن لأجزاء من الدماغ أن تكون نائمة، بينما أجزاء أخرى مستيقظة تماماً، ما يفسر قدرة البعض على قيادة السيارات لمسافات طويلة على نحو أقل أماناً عندما يكونون متعبين، وسبب أكل السائرين نياماً بشراهة للمثلجات. استعان كرويكر في كتابة المقال بدراسات سابقة أجريت على الدلافين التي أشار إلى أنها تغفو بنصف دماغها فقط، وتسبح وإحدى عينيها مفتوحة، وعليه يمكن القياس على الإنسان، وبذلك ينتفي الاعتقاد بوجود منطقة مركزية لأوامر النوم في الدماغ. جهود علمية للتغلب على المرض مشروع باسيتي العلمي الذي نفذته جامعة برن في سويسرا عام 2000 كان أول الدراسات العلمية الجادة التي بحثت عن تفسير لحوادث العنف خلال النوم، وأشارت بعد عشرات التجارب على سائرين نياماً إنه ليس هناك حدود واضحة بين عالمي النوم واليقظة، وأن الاعتقاد الشائع بأن الجسد كله يخلد إلى النوم خاطئ لأن هناك أجزاء مهمة في الإدراك تبقى بكامل نشاطها، وهذه الأجزاء تتركز في القشرة الحزامية الخلفية، وأجزاء من المخيخ تقع وسط وقاعدة الدماغ. وتوصلت دراسة طبيبة الأعصاب ميشيل تيرازجي وفريق العمل في مركز أبحاث مستشفى نيجواردا في ميلان بإيطاليا إلى نتائج متقاربة مع الدراسة السويسرية وأشارت إلى أنه في الوقت الذي تنشط فيه القشرة الحزامية الخلفية من الدماغ، يكون الفص الجبهي في نوم عميق وهو المكان المسؤول عن الإدراك عند الإنسان، وتعمل خلاياه العصبية على تقييم النتائج المترتبة على أي تصرف قبل ارتكابه. اختصاصي النوم الطبيب مارك برسمان من جامعة توماس جيفرسون بنيويورك اهتم بدراسة حالات العنف خلال النوم عبر تحليل 32 حالة موثقة طبياً وقانونياً، وخلص إلى أن الأحلام المزعجة اليومية تعد جرس إنذار لاحتمالية إصابة الشخص بدرجة ما من اضطرابات النوم تصل في أقصى درجاتها إلى ارتكاب سلوك عدواني ضد الآخرين. واتفقت هذه النتائج مع الدراسة التي أجرتها الطبيبة ايزابيل أرنولف من مستشفى بيتي سالبترير في باريس حيث رتبت مقابلات مع 38 مريضاً يتلقون علاجات مختلفة في وحدة اضطرابات النوم، وبسؤالهم عن معاناتهم اتفق الجميع على أنهم غير واعين لما يرتكبونه من أفعال خلال النوم، واكتشفت الطبيبة أن 84% منهم يعانى من مشاكل شخصية واجتماعية ونسبة كبيرة تعرضت لاعتداءات جسدية في مرحلة ما من حياتها، وأن الجميع بدأت معاناتهم بالكوابيس الليلية. ومنذ عام 2011 يجري الباحثون بجامعة كاليفورنيا بيركلي دراسة ضخمة على العنف خلال النوم تحاول رسم خريطة لتحديد مناطق الدماغ المسؤولة عن اضطرابات النوم، وللإجابة عن السؤال الصعب، كيف ينتج الدماغ تجربة واعية متكاملة؟
مشاركة :