بين فوضى الأسماء الغربيّة للمطاعم التي تتوزّع في شوارع بيروت وضواحيها، يطلّ ببوّابته المتواضعة ولونه الربيعي الفرِح مكاناً يشبه اسمه العربي سعادة السماء الذي يذكّر بشعار سعادة السماء تبدأ بإسعاد من في الأرض، هو أول مطعم لبناني مطابق للمواصفات الإنسانيّة كونه مطعماً مجانيّاً لسدّ جوع كثيرين لا يلتفت إليهم أحد أو حتى يقدّم لهم رغيف خبز، ما يضفي على وجوههم سعادة قد تصل عنان السماء. المشهد الأول: في المطعم يقف حسين الستيني بعد أن ينهي طعامه، لا يطلب الحساب من النادل، ولا يسأل عن ثمن طبق الدجاج والبطاطا، يتطلّع إلى المتطوّع الشاب، يقبّل كتفه ويقول له شكراً ويغادر، شعور حسين والمتطوّع متشابه: سعادة من السماء. مشاهد حيّة المشهد الثاني: ماتيو العلاوي، شاب يافع مسؤول عن المطعم، يحرص مع المتطوّعين على كلّ التفاصيل، يتابع أخبار الزائرين ويحاول مساعدتهم في أمور ومشاكل تتخطّى الغذاء. السيّدة مريم الأربعينية منشغلة بابنها تبحث عن مدرسة مجانية له. ماتيو يسألها عن بعض التفاصيل ويؤكّد لها أنه سيسعى جاهداً لمساعدتها في أقرب وقت. وما بين المشهدين تكرّ سبحة المشاهد اليوميّة في تلك الزاوية المخصّصة لكلّ من لا يجد قوته اليومي، تحديداً قرب جسر المشاة والأحياء الفقيرة في منطقة برج حمود في الضاحية الشرقيّة لبيروت، حيث تمّ افتتاح هذا المطعم المجانيّ منذ نحو ثلاثة أشهر، وهو مرخّص سناك عادي يُفتح يومياً عدا يومَي السبت والأحد، والغذاء فيه مؤمّن من مطعم عريق في لبنان مطعم مهنّا، يرسل إليه ما توفر من معجنات ومقبّلات وأطباق ساخنة .. أما الفكرة من ورائه فهي توفير طعام مجانيّ للجميع، لمن أراد.. لا بطاقات مطلوبة، لا هويات، لا تمييز، ولا شروط عمريّة ولا عرقيّة ولا دينيّة، وما على قاصد هذا المكان إلا أن يدخل ويأكل ثم يغادر. تنوّع تجارب ولأن سعادة السماء توحي بزوّادة الطعام في صرّةٍ مشلوحة على كتفِ راعٍ أو فلاح أو عامل يخرج مع الشمس بحثا عن عيشٍ كريم، يسعى هذا السناك لفتح الصرّة على باقة من النصوص التي تتنوّع بتنوع تجارب أصحابها، من عبارة مكتوبة على ورقة معلّقة على اللوحة الخاصة بالإعلانات في المقهى، ومرفقة بكلمة شكراً، تكون بداية الدخول في تفاصيل المكان الغريب الذي هو بمثابة تعبير ما عن روح المدينة وكتابها المفتوح وملامحها المعلَنة، في المنطقة المعروفة باكتظاظ سكاني وكثافة العمّال الأجانب والمتاجر الصغيرة وأسعار الإيجارات المعقولة، روّاده مختلفو الأعمار والانتماءات، ممن لم يشفِهم الزمن من إدمانهم المتوارث على ذلك الشارع الطويل الذي طالما اتسَع للجميع: الشاب والعجوز، المتطرّف والمعتدل، التقليدي والمتحرّر يبدون كجزء من الصورة في هذا السناك يوحّدهم العوز، عدا النقاش بكل ما يخطر على البال. خدمة ورفقة يومياً يستقبل سناك سعادة السماء نحو 80 شخصاً، يأتون إليه كباراً وصغاراً، يأخذون وجباتهم في صحون ويجلسون إلى طاولاتهم الصغيرة، والتركيز كبير فيه على الخدمة الطيّبة والرفقة الجميلة، إذ يأتي المتطوّعون كلّ يوم، يعطون كل زائر من وقتهم ويخدمونه، يطعمون الصغار ويقدّمون الصحون الملأى للكبار بابتسامة دائمة، ولعلّ البخشيش الذي ينتظره المتطوّعون هو شعور الزائر بالشبع! مدخله ضيّق، لكن داخله واسع، وجوّه مميّزة بحميميّة وألفة خاصّتين بروح الأماكن: ديكور مميّز بلمسة هندسية بسيطة وجذابة، فسناك سعادة السماء مفتوح كل يوم أمام كل محتاج من أي منطقة أو بلد، فيه يعمل المتطوعون خمسة أيام في الأسبوع. تجربة رائدة لا تكتمل تجربة الدخول في عالم سعادة السماء إلا بالوقوف قليلاً أمام كونه أحد مشاريع جمعية تحمل الاسم نفسه أيضاً، يديرها رجل الدين مجدي العلاوي، وتعمل على برامج عديدة، كمعالجة المدمنين وتأمين المسكن لمن لا مأوى له، فضلاً عن تخصيصها سوبرماركت يستفيد من منتجاتها لبنانيون طيلة فترة قبل الظهر وأجانب ما بعد الظهر. وحفاظاً على كرامة الإنسان، افتتحت الجمعية مصرفاً مهمته مساعدة العائلات المحتاجة مادياً، بحيث تعطي مبلغاً مالياً وفق عدد أفراد كل عائلة.. وتحضيراً للسنة الدراسية المقبلة، أعلن الأب علاوي عن البدء بحملة تبرّع يتخللها توزيع الحقائب المدرسية والقرطاسية لأكثر من خمسة آلاف تلميذ، من عمر 5 سنوات إلى 14 سنة.
مشاركة :