وعلى الرغم من ضخامة رواية عبدالرحمن منيف مدن الملح بأجزائها الخمسة التيه - الأخدود - تقاسيم الليل والنهار - بادية الظلمات - المُنُبَتّ الصادرة تباعاً منذ عام 1984م، إلا أنها كانت ومازالت محل اهتمام القراء والنقاد. وتعود أهميتها إلى عدة عوامل فنية وموضوعية. فهي رواية ملحمية وتنتمي إلى ما يُعرف في الأدب الروسي بالروايات الأنهار. وتشكل كشّافاً فاحصاً للجزيرة العربية وتبدلاتها السياسية والاجتماعية والثقافية إثر اكتشاف النفط. وتلك الجرعة السياسية تحديداً هي بمثابة وثيقة لتأريخ لحظة من لحظات التحوّل الكبرى في حياة إنسان الجزيرة العربية، بما يمثله ذلك التحوّل من ارتدادات في المحيط العربي. الأمر الذي جعلها نبعاً مرجعياً لفهم شخصية المكان وما طرأ عليها من تبدّلات في العمق. إذ لا غنى لأي قارئ أو دارس للرواية العربية من مقاربتها باعتبارها مجرة تأثير سواء على مستوى الأسلوب أو الموضوع. حيث حذى حذو عبدالرحمن منيف مجموعة من الروائيين. ومازالت الرواية تضغط على المنجز الروائي بتأثيراتها المفهومية والجمالية. ولأن القارئ والباحث العربي على موعد أبدي ومصيري مع القضية الفلسطينية تتزاحم الروايات الفلسطينية للدخول في نادي كلاسيكيات الرواية العربية. حيث تحضر أسماء هامة كإبراهيم نصرالله وسحر خليفة وأميل حبيبي ورشاد أبوشاور وجبرا ابراهيم جبرا وغيرهم، إلا أن القارئ العربي يجد طمأنينته ومرجعيته عند غسان كنفاني. وعلى الرغم من الوعي التجذيري في روايته عائد إلى حيفا إلا أن روايته رجال في الشمس الصادرة عام 1963م تبدو أكثر حضوراً وتأثيراً. إذ مازال صدى العبارة الشهيرة لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟ يتردد عند القراء والنقاد كأشهر جُملة في الأدب الفلسطيني وأكثرها قابلية للتأويل. لدرجة أنها تخضع بين آونة وأخرى لقراءات تحليلية تعيد للرواية وهجها. فهي رواية تطرح تأثيرات النكبة وعذابات الدياسبورا الفلسطينية. ويمكن اعتبارها بمثابة الصرخة التي تتردد أوجاعها من بين خيام التشرد. وهو الأمر الذي يدعو القراء والدارسين إلى اعتبارها مرجعية لوعي جوهرانية القضية الفلسطينية. لم تغب الروائية العربية عن المشهد الروائي منذ بدايات التأسيس. حيث دخلت غادة السمان -مثلاً- برواياتها في قائمة الكلاسيكيات. إلا أن ذلك الحضور كان ساطياً عند جيل من القراء. ولم تعد اليوم محطة قرائية لأي قارئ مهتم بالرواية. كما ان روايات نوال السعداوي يُنظر إليها كأفكار أكثر مما يتم التعامل معها كسرديات. فيما استطاعت أحلام مستغانمي أن تفرض حضورها برواية ذاكرة الجسد عام 1993م التي أثارت جدلاً واسعاً على أكثر من مستوى داخل الرواية وخارجها. إذ يبدو أن جيلاً جديداً من القراء قد تشكّل وباتساع كبير جعل من هذه الرواية، التي عُرفت ابتداءً بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ، تتمدد بسرعة في المشهد، وتأخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام والدراسات. فيما قيل حينها بأنها رواية ذات منزع شعري بصري، تتفادى البنائية لصالح التهويمات والعبارات الرّنانة. لدرجة أن الرواية صارت مصدر إلهام لما بعدها من الكتابات الشبابية. بمعنى أنها غدت مدرسة مرجعية، على الرغم من كل موجات العداء والنقد التي جوبهت بها. ومازالت إلى اليوم تحظى بإقبال شعبي كبير باعتبارها علامة للتجديد الروائي الذي يعتمد الخطفات الشعرية. وفي عام 2008م كان المشهد العربي على موعد مع رواية من نوع آخر سرعان ما انظمت إلى قائمة كلاسيكيات الرواية العربية، على الرغم من ثقل مادتها. حيث تدور أحداثها في القرن الخامس الميلادي. وتحكي قصة الصراع المذهبي ما بين آباء الكنيسة. وهي رواية يوسف زيدان عزازيل التي حصدت جائزة البوكر العربية بعد صدورها بعام. وهي رواية مكتوبة بموجب مرجعية الوثائق وبلغة صوفية من داخل اللحظة المجسدة. وبغض النظر عن المهاترات التي صاحبتها من قبل ما تبقى من المتمذهبين، إلا أنها بدت رواية متينة على مستوى السرد والمعلومة والمعالجة الدرامية. فيها من القيم البحثية والعاطفية ما يولّد المتعة والتشويق. وقد جاءت في لحظة من لحظات الظلامية الدينية العربية وكأنها تحاكم اللحظة الراهنة بوقائع وشواهد تاريخية تدين التطرف وتبشر بالتسامح والتحاور الإنساني. حتى صارت محل اهتمام النقاد برصيد هائل من الدراسات التي لم تتوقف. وبمطالعات القراء الذين وجدوا فيها انتصاراً للخطاب الروائي الناضج بعد سيل من المشتبهات الروائية. إذ لم يعد بمقدور أي مهتم بالرواية تفادي الارتطام بها. هذه المطالعة لا تقترح أجمل وأفضل الروايات العربية. بل تقارب نادي كلاسيكيات الرواية العربية الذي يتسع لما هو أكثر من هذه العينات. وهو قابل للتمدُّد بالمزيد من الإصدارات ومراكمة القراءات المتجدّدة. إذ يمكن التوقف -مثلاً- عند رواية رامة والتنين لإدوارد الخراط كنقطة انطلاق لما عُرف بالكتابة أو الحساسية الجديدة. إلا أنها قد لا تشكل أي إغراء للقارئ مقابل الإشتغالات النقدية. ويمكن تشكيل قائمة بأسماء لها حضورها ببعض رواياتها في وعي ووجدان القارئ العربي كحنه مينا وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وإبراهيم الكوني وإسماعيل فهد إسماعيل والطاهر وطار ورشيد بوجدرة وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وعبدالرحمن مجيد الربيعي وغالب هلسا وخيري شلبي وغيرهم. وهي أسماء تتفاوت حضوراتها لدى القراء والدارسين. إذ يمكن أن تُعد روايات عربية في قائمة الكلاسيكيات داخل المحيط الثقافي القُطري إلا أنها قد لا تلقي بظلالها على كامل المشهد العربي. كما ان الانفجار الروائي العربي في الألفية الثالثة مازال قيد الدرس والقراءة ليتأهل منه ما يمكن أن يكون جزءاً من كلاسيكيات الرواية العربية.
مشاركة :