جمع كبير من الكتّاب العرب جاءوا إلى الكتابة القصصية والروائية من باب القراءة، وأنا أحد أولئك الكتّاب، كنتُ ولم أزل أتوكأ على القراءة. تأخذ بيدي، مرة بلين وطيبة، وتارة بقسوة وشدة. لكن، عليَّ أن أعترف بأن اللغة العربية وحدها، وقفت معي طوال رحلة عمري في الكتابة، وساندتني وشدّت وتشدّ من أزري، ووحدها اللغة، عبر القراءة والكتابة، أخذتني إلى سماوات ما كان يمكنني الارتقاء إليها، لولا تلك السلالم السحرية التي تضعها أمامي! كأنه الأمس، كنتُ صبيًا في الثانية عشرة من عمري، يوم بدأتُ القراءة فهزّت عقلي وقلبي، وأخبرتني بنطق حروفها: هناك حيوات أخرى كثيرة تسير إلى جانب درب الحياة الذي نعيش ونعرف. وأذكر أنّها قالت لي: لك عمرٌ واحد تحياه كإنسان، ولك أعمار كثيرة ستُضاف لعمرك، متى أصبحت قارئًا! بعد عقد من سنوات القراءة النهمة والدائمة والمتنوعة، بدأتُ النشر. يومها، كنتُ شابًا أدرس في كلية الهندسة والبترول بجامعة الكويت، ولاح لي طريق النشر مغريًّا ومقترنًا بالشهرة، وربما بالحضور الاجتماعي، وربما بشيء من المكانة الأدبية. لكن، جميع هذه الاقترانات تبخّرت كالدخان، ولم يبقَ لي، وأنا أخوض في عقد سنواتي الستين، سوى أن القراءة متعة ملوّنة ومتجددة تُعين الإنسان على احتمال اختلالات الواقع المؤلمة والموجعة، وربما ساعدته على فهم شيءٍ من قوانين الواقع السائدة. ووحدها القراءة هي القلم والمحرّك للكتابة! القراءة متعة جدّ مسالمة ومطواعة، بخلاف الكتابة؛ الجهد والمغامرة والخوف. ففي جميع ما كتبت، ولي أربعة وعشرون كتابًا، أعدتُ الكتابة بعد الانتهاء منها مرة ومرتين وثلاثاً وعشراً وأكثر، فللكتابة رهبة كبيرة، لكونها مسؤولية، ولكونها رهاناً يظل لصيقاً باسم الكاتب. وللكتابة عمرٌ أطول بكثير من عمرِ راعيها، وربما هذا هو عزاء الأدباء الأكبر، بأن يخلّفوا وراءهم ما يخلّد أسماءهم وحكاياهم وأوطانهم! أبواب القراءة لا تُعد، وغُرفها لا تُحصى، ويمكن لأي إنسان أن يدخل من أي باب، ويقصد أي غرفة. ومتى ما أمسك شخص بالكتاب، فله أن يقرأ في أي وضعية يريد، وكيفما يريد، ولِسِعة الوقت التي يرغب. هي القراءة نعمة المتع الأجمل. لكنّ الكتابة - وهذا رأي شخصي - بعكس القراءة، فأبوابها مغلقة طوال الوقت، ولا يمكن لأي شخص الدخول إليها، إلا من حَمَلَ جواز قراءاته وإرادته وحلمه، وحتى إذا حمل جواز قراءته ووعيه وخبرته الحياتية وإرادته وحلمه، وبافتراض أنه دخل إلى إحدى غرف الكتابة، وبافتراض أنه كتب مادة ما، فليس هناك أبدًا ما يمكن أن يُنبئ بصحة ما كتب، وبإبداع ما خطّ! لذا، قد يدخل كاتب للحظة كتابته، ويمضّي فيها ساعات وأياماً وأشهراً وحتى سنوات دون أن يُنجز شيئًا، صحيح أنه قد يكتب كتابًا، ولكن ما الضمان بنشر الكتاب؟ وما الضمان الأصعب بأن هذا الكتاب سيُقرأ وينال حظّه من الاهتمام والشهرة، وأنه سيُشكّل إضافة لرصيد ذلك الكاتب. لذا، هي ممتعة بساتين القراءة، وموحشة مخيفة دروب الكتابة، وليس للكاتب من نبأ عن كتابته التالية إلا بمغامرة كتابة جديدة مسؤولة وإنسانية! الكاتب منذور للوحدة والتوحد: وحدة القراءة متعة وسلوى، وتوحد الكتابةِ سيرٌ في دروب الوحشة بُغية استئناسها! لكن، متى ما استوطن الكاتب المشيَ فوق تراب تلك الدروب الموحشة، وألِفَ ضفافها، صارت هي كل حياته، ومنحته توازنه على عارضة لحظة الواقع الشاهقة، ووحده صنيع هذه الدروب المبدع، ما يعتاش عليه القراء حول العالم، ويبجّلونه، ولو بعد حين! الكلمة هي سرّ الخلق الأكبر وبادئته! وهي ما يمنح القارئ لحظة عيش مغايرة تُضاف لعمره وتُسرّي عنه!
مشاركة :