كنا في الحلقات السابقة تحدثنا عن استخدام الموسيقى لأجل صحة وسعادة وراحة الإنسان، وأوضحنا أن العلاج بالموسيقى هو العملية التى يتم بموجبها تنظيم إيقاع الحركة داخل الجسم الحى بواسطة موجات الموسيقى وإيقاعاتها، سواء عن طريق الاسترخاء المقيد لكثير من الحالات المرضية.. وتناولنا الجذور التاريخية للعلاج بالموسيقي، وكيف كان الغناء والرقص عند الإنسان البدائى من طقوسه السحرية، كما تناولنا العلاج بالموسيقى في الحضارات اليونانية والقبطية والرومانية وفي هذه الحلقة نتحدث عن العلاج بالموسيقي في الحضارة العربية.عباقرة الطب العربى يداوون مرضاهم بالموسيقىوينتقل العلم من حضارة إلى حضارة، ليأتي عباقرة الطب العربي في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية فيضيفون الكثير في هذا الميدان.. فالعالم العربي الكبير «ابن سينا» - من كبار عباقرة الطب في القرن الحادي عشر– درس أثر الموسيقي على الإنسان واستخدامها في علاج المرضي.. وأهمية استخدام الذكر لتهدئة الحالات النفسية. كما أن أبونصر الفارابي كان يستخدم العزف على العود للتأثير على المستمعين بإضحاكهم وإبكائهم وفى إنامتهم أو إيقاظهم.العلاج بالموسيقي في عصر النهضة:في بداية عصر النهضة أوصي «Bacon» باستعمال الموسيقي لتنشيط الروح، واقترح في أحد كتبه استخدام الموسيقي في علاج «الاضطرابات التكوينية». كما استعملت الموسيقي كسلاح ضمن الأسلحة المستعملة في مكافحة وباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا في ذلك الوقت.. فقد أوصت السلطات المسئولة وقتئذ بعزف الموسيقي للذين أصيبوا بالمرض. وفى القرن السابع عشر كتب «Henry Beachman» أن الموسيقي تطيل العمر، لأنها تقضي على الحزن والكآبة وانخفاض الروح المعنوية. والأزواج الأمريكيون كانوا يؤمنون بأن للأغنية فاعلية في شفاء المريض، ويطلبون منه الغذاء عدة ساعات يوميًا. وحتي القرن الثامن عشر، كان ضحايا الأمراض العقلية يعتبرون مخلوقات خطرة، فكان الهائجون يربطون بالسلاسل أو يجلدون إلى أن جاء الطبيب الفرنسي"Philipe Pinel» سنة ١٧٩٣، لتبدأ على يديه صفحة جديدة، فلقد نزع الأغلال عن المرضي واستخدم أسلوب تنشيط الجسم والعقل، كبديل إنساني للأسلوب القديم... وأطلق على ذلك اسم «العلاج المهني»، وفى أحد أشكاله أُستخدم الإيقاع الحركي الموسيقي لعلاج النفس والروح. وقد نصح «John. M. Hadly» بأن العلاج المهني إجراء ضروري، خصوصًا لمرضي الأعصاب، لإبقاء عقلهم وجسمهم، أو كليهما، باستمرار في حالة نشاط. وفى سنة ١٨٧١، كان الأطباء يستغلون العزف الهادئ على الكمان للتخفيف من حدة آلام الجرحي والمرضي «بعرق النساء». فخلال القرن التاسع عشر اهتم الأطباء النفسانيون بالعلاج بالموسيقي، وفى مقدمتهم (Moreau De Tours)، حتى بدأت الدراسات العلمية في مدي التأثير الموسيقي على الإنسان، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر.العلاج بالموسيقي والحرب العالمية الثانيةأثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الرغبة في مساعدة المحاربين من نزلاء المستشفيات هي الدافع لتعيين موسيقيين بالمستشفيات وتشجيع مدرسي الموسيقي والفرق المدرسية ومديري الكورال لإدخال الموسيقي للمرضي كوسيلة للنشاط والتسلية.ثم انتقلت بعدها من مجرد اشباع للاحتياجات العادية للمريض إلى إشباع لاحتياجاته الصحية النفسية، فضل العلاج بالموسيقي يستخدم كعلاج لتهدئة المرضي لفائدة النفس والروح، ولبقاء الحالة المعنوية سليمة.وبمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ استخدام الموسيقي بطريقة أكثر تخصصًا، فظهر تعبير جديد «العلاج النفسي الجسماني» (Medecine Psychosomatique)، وحوله ظهر تعبير «العلاج بالفن» (Arttherapy) والعلاج الابتكاري، (Creativity) والعلاج بالموسيقي (Music Therapy)، «والعلاج بالسوفرولوجيا» (Sophrology)، وأخيرًا ظهر تعبير «العلاج البديل» أو «الطب البديل».ومن هذا العالم الجديد تبين أنه من الضروري إعداد منهج للمعالجين الموسيقيين. فكان «هانز هوف» (Han Hof) رئيس قسم الأمراض النفسية العضوية في مستشفى الجامعة بفيينا، هو أول من وضع فكرة دراسة الموسيقي والطب سويا. وبذلك نشأ أول تعاون بين الأطباء والموسيقيين والمدرسين وعلماء النفس، وأنشأوا برنامجًا دراسيًا للمشتغلين بالعلاج الموسيقي.وفى سنة ١٩٤٤ أنشأت جامعة ولاية «ميتشجان» أول منهج وضع خصيصًا لتدريب علاجيين موسيقيين، وكانت أول دراسة أكاديمية تعليمية معملية انتظمت في سنة ١٩٤٦ في جامعة «كانساس».وفى سنة ١٩٥٠، تأسيس الاتحاد الوطني للعلاج بالموسيقي (N.A.M.T.) مما مكن من توحيد وتقنين تعاليمه وممارسته الإكلينيكية والبحث والتسجيل عن طريق الكليات المنظمة التي تكونت رسميًا لتخريج المتخصصين في العلاج بالموسيقي ولسد احتياجات المستشفيات.وفى سنة ١٩٦٧، ظهر أول تنظيم علمي للعلاج بالموسيقي في اليابان، وهو الاتحاد الياباني للعلاج بالموسيقي. وكان تركيزه الأساسي على علاج الأطفال المتخلفين عقليًا، ثم ظهرت هناك بعد ذلك جمعية أخري لخدمة هذه القضية عن طريق العلاج بالموسيقي. كما ظهرت في هذا الوقت المطبوعات المختلفة: مثل المجلات والصحف والكتب والدراسات المتخصصة في ميدان العلاج بالموسيقي.وفى أوروبا أنشئت أول مدرسة للعلاج بالموسيقي سنة ١٩٥٩ لتخريج معالجين بواسطة الموسيقي. وانتشر هذا النوع من العلاج حتى أصبح في أمريكا ١٦ جامعة للعلاج بالموسيقي على أساس عملي ونظري، كما أصبح هناك أيضًا ٦٠٠ مستشفى تستخدم هذا النوع من العلاج. وفى «هارلم» بأمريكا بلغ عدد المعالجين سنة ١٩٦٦، ١٣٠ ألف مريض. أما على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، فيوجد نحو ٤٠٠ معهد يخرج المعالجين الموسيقيين، لأن الإقبال على الاستفادة من العلاج بالموسيقي يتزايد، حتى أصبح هناك الآن عجز في عدد خبراء هذا التخصص. وباستخدام الموسيقي في مستشفيات مدن أمريكا انتقل المرضي من مستشفيات الريف إلى مستشفيات المدن، مما اضطر المسئولين إلى تحويل دور الاستشفاء التي كان يحجز فيها المرضي إلى مراكز.مراحل العلاج بالموسيقي خلال الربع قرن الأخير:بعد أن توصل العلماء إلى أن المتابعة الإكلينيكية وحدها لا تكفي للوصول إلى معرفة ميكانيكية العلاج بالموسيقي، فقد طالب المسئولون سنة ١٩٧١ بضرورة توضيح العمليات المعقدة ومعرفة فاعليتها باستخدام أبحاث سيكولوجية بمنهج إحصائي.وعلى ذلك فقد مر العلاج بالموسيقي في هذه الفترة بثلاث مراحل:المرحلة الأولي.. حدث تركيز كبير على الموسيقي دون الالتفات إلى دور المعالج.المرحلة الثانية.. تركزت الأفكار على دور المعالج مع إهمال نسبي لدور الموسيقي، وذلك من أجل تكوين علاقة متبادلة مع المريض.المرحلة الثالثة.. تحقق التوازن المنشود.. فاتخذ وضع متوسط بين هذين الوضعين المتطرفين، فأصبح المعالج يستخدم تخصصه للتركيز على علاقته بالمريض ثم يتحرك في الاتجاه المرغوب وبالسرعة المناسبة لإدماج كل من دور الطبيب ودور الموسيقي. ورغم أن هذا العلاج ووجه بصعوبات وتحديات من الطبقات العلمية المختلفة، إلا أنه زاد في بحوثه سعيًا وراء استخدام الموسيقي في العلاج وبذل مجهود أشق لتقييم نتائجه. ومن هنا لقي العلاج بالموسيقي اهتمامًا عالميًا كبيرًا، حيث وجد الإنسان دواء لبعض الأمراض بعيدًا عن العقاقير والسموم الصناعية.العلاج بالموسيقي حديثًا:أعد الدكتور بيتر سلاي وآخرون من جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة دراسة تفيد أن الموسيقي يمكن أن تخفف الاجهاد، تحسن الأداء الرياضي، وكذلك الحركة العصبية للمصابين بالأمراض العصبية. كما أظهرت دراسة جديدة بأن الإنصات الموسيقي ذات الإيقاع البطئ أو التي تبعث على التأمل لها تأثير مريح على الناس، فتبطئ التنفس ومعدل نبضات القلب، بينما يحصل تأثير معاكس على الأشخاص الذين يستمعون إلى الموسيقي ذات الإيقاع السريع، فيتسارع تنفسهم ويزداد معدل نبضات قلبهم؛ وقام الباحثون في الدراسة بمراقبة التنفس وضغط الدم ونبضات القلب وأي أدلة تنفسية أخري لأربعة وعشرين شابًا وامرأة، وبينما كانوا يستمعون إلى مقتطفات قصيرة من أنواع مختلفة من الموسيقي من ضمنها الموسيقي الكلاسيكية السريعة والبطيئة، والإيقاعات المعقدة، وموسيقي الراب، كما راقبوا المتطوعين أيضًا أثناء فترات الاستراحة، وتم تقسيم المتطوعين إلى مجموعتين، الأولي تجريبية وهي التي تعرضت للبرنامج التدريبي في الموسيقي، والثانية ضابطة وهي التي لم تتعرض للتدريب الموسيقي، وأظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة الثانية أظهرت عدة مستويات من الإثارة، والتنفس السريع، وزيادة ضغط الدم، ومعدل نبضات القلب، وفقًا لسرعة الموسيقي، ومدي تعقيد اللحن، في حين بدأ أن الأسلوب الموسيقي أو الاهتمام الفردي بنوع الموسيقي كان أقل أهمية من سرعة الموسيقي.وقد لاحظ الباحثون بأن الإيقاعات البطيئة تستحث الهدوء، ومما يثير الانتباه أن الوقفات القصيرة أو الاستراحات القصيرة بين المقتطفات لمدة دقيقتين سببت شعورًا بالارتخاء أكثر من الفترة التي سبقت تحضير المتطوعين للإنصات إلى الموسيقي، وكانت هذه التأثيرات أكثر وضوحًا عند الأشخاص الذين تلقوا تدريبًا موسيقيًا، وذلك لأنهم تعلموا كيفية مزامنة تنقسهم مع المؤلفات الموسيقية. ويقول سلاي وزملاؤه أن الموسيقي لا تمنح الشعور بالمتعة فقط، بل لها فوائد صحية نتيجة التناوب المنتظم للشعور بالارتخاء، والاختيار الملائم لنوع الموسيقي المتناوب بين الإيقاع السريع والبطئ، والذي تقتطعه استراحات قصيرة، يمن أن يستخدم لتحقيق الشعور بالارتخاء، كما يمكن أن يكون مفيدًا بشكل خاص لمرضي القلب السكتة الدماغية.
مشاركة :