كنا في الحلقات السابقة تحدثنا عن استخدام الموسيقى لأجل صحة وسعادة وراحة الإنسان، وتناولنا الجذور التاريخية للعلاج بالموسيقى، وكيف كان الغناء والرقص عند الإنسان البدائى من طقوسه السحرية، كما تناولنا العلاج بالموسيقى في الحضارات اليونانية والقبطية والرومانية والحضارة العربية، وأوضحنا مراحل العلاج بالموسيقي خلال الربع قرن الأخير، وفي هذه الحلقة نتحدث عن الاستجابات الموسيقية.الاستجابات الموسيقيةلا شك أن جميع الكائنات الحية تستجيب للموسيقي، وإن تفاوتت درجات هذه الاستجابة، وقد عبر عن ذلك العالم العربي الكبير، الفارابي، حيث قال "إن في طباع الحيوانات والإنسان إذا طربت صوتت نحوًا من التصويت، كذلك إذا لحقها خوف صوتت صنفًا آخر من التصويت".ثم قامت الدراسات الحديثة لتؤكد نفس الحقيقة.. ففي دراسات "ماكس وجاكسون" أمكن قياس التيارات الحركية داخل الجسم أثناء الانفعالات بالموسيقي. تلك التغييرات تخفيها الملابس، بينما تظهر أحيانًا تلك الانفعالات بطريقة واضحة في صورة الخبط بالرجل أو اليد أو غير ذلك.فالاستماع الموسيقي يحدث انفعالات نتيجة استجابات مختلفة مبنية على أساس إرسال الإشارات العصبية للمخ، فتنعكس على أثرها الاستجابة بطريقة معينة. وبعد تجارب عديدة ثبت أن الانفعالات المختلفة هي ردود فعل معقدة للجسم ككل، وبصفة خاصة للنظام العصبي المركزي.«هنزليك» تنبع الموسيقي من أحاسيس ساميةوفى هذا المجال يقول هنزليك: "تنبع الموسيقي من أحاسيس سامية، أحاسيس لا تنتمي إلى حياتنا اليومية وما تتخللها من أحداث.. أنها تخلق في وجداننا حالة فريدة من الشعور أو المزاج تجعل وعينًا الإنساني يبتعد عن كل ما يحدق بعالمنا من مشكلات ومتاعب يومية أو اجتماعية". كما قامت الدراسات والأبحاث المتعلقة بالاستجابات، فأثبتت الموسيقار البريطاني وعازف الأرغن "شار إفيسون" أن الموسيقي تثير أنواعًا مختلفة من الاستجابات وفقًا للأصوات التي تعبر عنها القطعة الموسيقية، وتتابعت الدراسات والبحوث لتحديد أنواع الاستجابات الموسيقية.أولًا: الاستجابة الفسيولوجية للموسيقي:تظهر في صورة رد فعل حركي خارجي، مثل الخبط بالرجل أو تحريك الرأس أو غيره، أثناء متابعة إيقاع القطعة الموسيقية، أو في صورة رد فعل داخلي، ويمكن ملاحظته عن طريق قياس النبض أو ضغط الدم أو غيرهما.ففى تجارب "جامبل وفوستر" تمكنت الموسيقي المختلفة من تغيير سرعة التنفس وعمقه. كما أن تجارب "ويلد" بينت أن الموسيقي أدت إلى زيادة نشاط القلب، ولوحظ تغيير في توزيع كمية الدم بالجسم. كذلك حدث عدم انتظام واضح في سرعة وعمق التنفس. وذلك حسب تغيير المؤثر والمتأثر.وأما التجارب الروسية لـ"ميخائيل موجندوفيك" و"فيرا بولياكوفا" فقد أثبتت نقص زمن رد الفعل الحركي بمقدار ٢٠/١٠٠ من الثانية، والوظائف الجسمانية والذاكرة تحسنت بنسبة ١٠٠٪ بفعل الموسيقي.وتنقسم الاستجابة الفسيولوجية إلى ثلاثة أقسام:استجابة لا إرادية: مثل تغييرات ضربات القلب أو النبض، وهذه يصعب التحكم فيها.استجابة شبه إرادية: مثل الخبط بالأرجل بطريقة لا إرادية أثناء سماع الموسيقي.. على أنه عند التيقظ يمكن التحكم في هذه الحركة.استجابة إرادية: يمكن التحكم فيها، مثل الحركات الإيقاعية المقصودة بمصاحبة الموسيقي. وتستند هذه الاستجابة إلى حركة العضلات، وتعرف بالنظرية الحركية. والنظرية الحركية تعتمد على وجود جهازنا العضلي المعقد الذي يمكننا من استقبال الإيقاعات المعقدة، والاستجابة لها بواسطة التدريب.وتؤكد المدرسة التوقيعية (Eurhythmic School) للمبتكر "إيميل جاك دالكرو" أن الاستجابة الايقاعية (وهي جزء من الاستجابة الفسيولوجية ) تفيد في مجالين: الأول جسمي محض، لتمرين العضلات وتحسين الصحة، والثاني معبر عن القيمة الجمالية للنفس.ثانيًا: الاستجابة الانفعالية للموسيقي:وإذا كانت نتائج الاستجابة الفسيولوجية قد برزت نتائجها من خلال التجارب الحديثة، فإن الاستجابة الانفعالية تعتبر من الاكتشافات القديمة.ولفلاسفة اليونان الفضل الأول في إثبات أن الموسيقي وسيلة فعالة في تربية النفس وتهذيب الطباع.. ويعتبر أفلاطون وسيلة فعالة في تربية النفس وتهذيب الطباع.. ويعتبر أفلاطون من الرواد الأوائل الذين اكتشفوا الأثر الانفعالي للموسيقي، حيث عبر بقوله: "الإيقاع والنغم ينفذان إلى أعماق النفس ويستحوذان عليها بقوة".وانتقل شعاع التطوير من اليونانيين إلى من جاء بعدهم..ففي القرون الوسطي – التي توصف بالقرون المظلمة – كتب "بوثيوس" كتاب "مؤسسة الموسيقي".. ومع ذلك فإنه يسجل حقيقة لا نبالغ إذا وصفناها بالإبداع.. فيقول المؤلف في أول سطور هذا الكتاب: " إن الموسيقي جزء من طبيعتنا الإنسانية، ولها القدرة على تحسين خلقنا".ثم جاء "ماير" ليقول: "الموسيقي يمكنها أن تؤدي معاني انفعالية وتذوقية، مضافًا إليها معان ذهنية تجريدية خالصة، وبذلك يمكنها التأثير في أمزجة الأفراد وانفعالاتهم النفسية الأخري".ثالثًا: الاستجابة المزاجية أو العاطفية للموسيقي:من الطبيعي أن تؤدي الخبرات الانفعالية المتتالية المستمدة من الموسيقي إلى تكوين ما يمكن وصفه بالمزاج الثابت، بدلا من الأحاسيس والمشاعر المؤقتة. فالانفعال مؤقت، يظهر ويختفي وفقًا للأسباب التي تحركه، أما المزاج فيظل ثابتًا نسبيًا.. هذا ما أشار إليه "ويلد" من استنتاجات تجارية.وقد عبر "هفنر" عن هذه الاستجابة بقوله:"إنها حالة يقظة، تكون فيها العضلات وجميع الحواس في حالة تأهب وحركة.. تعيش مع كل جزء من المؤثر.. حيث يستجيب ويتفاعل النشاط الجسماني والإدراك الحسي معه. فتجتمع المعاني الواقعية والخبرة الجمالية لتدمج في جميع الأنشطة النفسية والجسمانية لحياة الإنسان اليومية.رابعًا: الاستجابة الخيالية للموسيقي:وتظهر هذه الاستجابة عندما تثير الموسيقي خيال المستمع، خصوصًا إذا كان يصاحبها غناء صوتي يفسر معانيها.خامسًا: الاستجابة العقلية المعرفية للموسيقي:وهنا تلعب الثقافة بشكل عام، والثقافة الموسيقية بشكل خاص، دورًا بارزًا في تحريك هذا النوع من الاستجابة.فالعقل – وليس الأحاسيس وحدها – يبرز كعنصر رئيسي مستغلاُ ثقافته لتعميق هذه الاستجابة.سادسًا: الاستجابة الجمالية للموسيقي:"والجمال" كما يقول هيجل – " هو ما يمكنه التعبير عن الحقيقة الروحية في صورة محسوسة".كما يضيف " ريتشارد فاجنر " إلى هذا المفهوم: "إذا أردنا أن نتخيل الجمال في أكمل صورة فيكفينا أن نستمع إلى الموسيقي الجميلة".من الواضح أن هذه الاستجابة مرتبطة بتفاعل الخيال مع الثقافة. وكلما زاد هذا التفاعل، اشتد بروز هذه الاستجابة ووضوحها لدي المستمع.** استخدامات الموسيقي للعلاج:الحديث عن استخدامات الموسيقي للعلاج يتطلب معرفة أثر الموسيقي لاختيار نوع محدد منها يتفق مع نوع الكائن الحي المطلوب التأثير فيه أو مع الحالة الخاصة لكل إنسان.فليست كل قطعة موسيقية مناسبة لكل بيئة أو كل حالة.. فالموسيقي المشجعة للهتافات في الأحداث الثورية والرياضية تختلف عن تلك المستخدمة في الكنائس، وعن تلك المستخدمة في المصاعد المزدحمة أو المطاعم. كما تختلف عن المستخدمة لعلاج الاكتئاب أو ضغط الدم الشرياني مثلًا.. وبالتالي فإن لكل مرض أسلوبه في العلاج بالموسيقي.ولتوضيح هذه الأمور يلزم تناول موضوعين هامين. وهما أنواع الموسيقي وخصائصها، ثم الأساليب المختلفة للعلاج بالموسيقي.أنواع الموسيقي وخصائصها:للموسيقي صفات متعددة، يمكن حصرها في الأنواع الثلاثة التالية: «موسيقي مثيرة، موسيقي هادئة، موسيقي استرخاء (منومة)».١- خصائص الموسيقي المثيرة:• تتكون من السلم الكبير.• قوية.. وكلما زادت قوتها زاد إزعاجها.• عالية الطبقة (Pitch).• متقطعة وغير منتظمة.• صادرة من منبع خفي أو متغير، وكلما ازداد عدم التأكد من مصدر الصوت ازداد الإزعاج.• غير ملائمة لنشاط المستمع• خالية من الرتابة.• تموجاتها سريعة.• تتميز بتنويع الآلات والأصوات، أي تعفها فرقة.• بها مفاجآت.. مثل الانتقال من مقام إلى مقام• إيقاعها واضح وقوي• تعطي قوة وثقلًا عند سماعها• منها هادئة الإثارة مثل The Bells of St. Marys، by Adams.٢- خصائص الموسيقي الهادئة:• تتكون من السلم الصغير.• لينة وهادئة، أي أصواتها من الطبيعة أو ما يشابهها من الألحان.• متوسطة أو منخفضة الطبقة (Pitch)• غير متقطعة، بل متصلة (Longato).• صادرة من منبع ثابت ومحدد.• ملائمة لنشاط المستمع.• يغلب على لحنها التكرار، إذا كانت من النوع الحزين.• تموجاتها بطيئة، أي خطوط جملتها الموسيقية عريضة.• تعفها عادة آلة واحدة وليس أوركسترا، وإذا زاد على آلة واحدة فتقوم آلة رئيسية باللحن الأساسي تقريبًا.• زمنها بطئ.. تناسب سرعتها سرعة التنفس، وهي في ذلك تفيد عملية التنفس.٣- خصائص موسيقي الاسترخاء (المنومة):• منخفضة وهادئة.• تتميز بالرتابة والانتظام وخالية من المفاجآت والتنويع.• صادرة من منبع ثابت ومحدد.• كثيرة التكرار إلى حد يبعث الشعور بقلة الحماس إلى درجة الملل.• تعزفها آلة واحدة أو صت إنسان.• منها بطئ.• هادئة النبرة وبعيدة عن السرعة.• إيقاعها غير محدد، منتظمة، رتيبة، هزازة ولا يوجد فيها أدني تنويع في الإيقاع الأساسي.• منها Berceuse from Chopin وأغاني المهد.تلك هي أبرز صفات الموسيقي وتأثيرها العلاجي.. وذلك لا يعني أن تأثير الموسيقي ينعدم إذا لم تتوافر جميع عناصرها.. فمن الممكن – مثلًا – أن تحتفظ الموسيقي الحزينة بطابعها، اذا توافرت بعض عناصرها الأساسية وليس كل هذه العناصر بالضرورة.ولأن الاستفادة من الموسيقي في علاج بعض الأمراض النفسية والعقلية والعضوية أصبح حقيقة عالمية لا تقبل الجدل أو الشكل، فمن الضروري أن يرتبط وجود استقرار هذه الحقيقة بظهور أساليب مختلفة للعلاج بالموسيقي.. لكل أسلوب قواعده المستمدة من نوع الحالة المطلوب علاجها.وتعدد الأساليب يعني الاعتراف بصعوبة أو استحالة تطبيق أساليب أو قواعد جامدة مع كل حالة.. وذلك لاختلاف وتنويع الشعوب والأفراد والحالات المرضية، والبيئة.
مشاركة :