عمّان - يحشد العُماني هلال الشيذاني في روايته "لن يزال يحل الخريف" مجموعة واسعة من الرؤى الفلسفية العميقة التي تُقدَّم في ثوب سردي يقوم على الحوار وتضاد الآراء، جاعلًا من الشخصيات واسطة بينه وبين القارئ الذي له الحكم النهائي في الاختيار، وقبول رأي بعينه أو رفضه. وجاءت الرواية الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن في 526 صفحة من القطع المتوسط. وجعل الشيذاني إهداءها لرفيقة دربه، ومعها من وصفهم بأنهم: "كنوزي الثمينة الذين تقبّلوا أن أبقى لساعات منكفئًا على الكتابة". ونوّه في عتبتها التي تلت الإهداء بأولئك الذين هم: "المتأملون بِوَعي الثابتون في مجابهة التيارات الماضون في الحياة بعزيمة الواثق الباذلون نفوسَهم في سبيل الإنسانية الناظرون إلى الحياة برؤيةٍ تختلفُ لتسمو هم كالنجوم في السماء والرياحين في الأرض". واختيرت للرواية سياقات مكانية وزمانية تنتمي لعُمان؛ حيث تنتقل أحداث الرواية بين "جونو" و"أشوبا" و"مكونو" وهي أعاصير استثنائية واجهت السكون العماني على واجهة بحر العرب وبحر عمان بين عامي 2007 و2018، وتشكل أجواء أحد هذه الأعاصير بؤرة ينطلق منها السرد ليمتدَّ ضمن البيئة العُمانية، مستحدثا داخل الجغرافيا أسماء أماكن وهمية يستحضر فيها الأبطال ذكرياتهم ويتحركون في حاضرهم ضمنها. ويشكّل التناغم بين الإعصار وأبطال الرواية بحسب الشيذاني: "مساحة في الصورة. لكن في ثناياها، كانت أحاسيس، وذكريات، وسعادة، وأحزان، وآلام؛ جميعُها كانت هناك. كانت دروبهم المتشابكة وأفكارهم المتناقضة أعظم من قطرات المطر التي تكوّنت إعصارًا مدمّرًا. وقف البعض منهم متأملًا، وتقارب البعض الآخر مصافحًا، وأعرض البعض بوجهه بعيدًا؛ في أثناء تجربة إنسانية، وجهاها النظام والفوضى، وقطباها الإقرار والإنكار، وإطارها قطرات من الماء تعبر الأفق في غيوم أمطرت ورحلت". تمتدُّ الأحداث في عدد من مراحل الرواية إلى خارج الجغرافيا العمانية، لكنها تظلُّ أسيرتها عبر شخوص الأبطال الذين يترددون بين إقدام وإحجام، واتفاق وتضاد مع قيم المجتمع العُماني التي تبقى تلاحقهم حتى في أبعد الأصقاع. تصف الرواية حياة إحدى الشخصيات في لندن عاصمة الضباب: "لم تفهم يقين الجو البريطاني يومًا، ولا كيف تتعامل معه. كما كانت أفكارها تدور حول الفروق بين المدينة والقرية، وكيف هو انعكاسها على حياة البشر في هذين التكوينين المختلفين. ترى يقين أن المناخ والطقس لهما أثر كبير كذلك في تكوين شخصيات البشر الذين يعيشون تحت تأثريهما. هي ترى أن المناخ المتقلب يوجِد شخصيات متقلبة، والطقس الغامض يُنتج شخصيات غامضة. وهي بهذا كانت تعبر عن رأيها في المجتمع الذي تختبر حياته للمرة الأولى". تقدم الرواية مقاربات حضارية واجتماعية عديدة، وتتطرق إلى الصراعات الاجتماعية، وتناقش تفاصيل يمكن مشاهدتها في أي مجتمع من المجتمعات. يقول الشيذاني على لسان إحدى شخصياته: "كما ترون فإن هذه الصور من دول وبيئات متعددة، ما يجمع بينها هو أنها التُقطت جميعها هذا العام، لكنّ الفروق بينها واضحة جلية. انظروا إلى خشونة هؤلاء، وتشكيلة سمات هؤلاء، ولين هؤلاء، وأجساد هؤلاء. إن هذه الصور تدلُّنا على أن طبيعة الحياة التي يعيشها كل مجتمع لها أثر في الصورة النهائية لمظهره". وتتطرق الرواية كذلك إلى دور الدين وأثره في المجتمع. وتتخذه أيضا منطلقًا لمناقشة فكرة الإيمان والإلحاد، والمآلات المتوقعة لكلٍّ من القناعتين في حياة صاحبها: يناقش "مؤمن" الشخصية التي تمثّل وجهة النظر الإيمانية في الرواية صاحبه "طارق" الذي يقف على الطرف الآخر من الفكر بقوله: "هناك حقيقتان في هذا الأمر. الأولى، أنني فكرتُ في ذلك كثيرًا، لكنني في كل مرة أفكر فيها، أجدني أتمسك بصلاتي وصومي وزكاتي أكثر، لأن التفكير النقي يقودني إلى فهمٍ واحد هو أن هذه الحياة مهما رأيناها طويلة هي قصيرة. وقصرها هذا يعني أن خسران أي وقت في التحضير لعمل الحياة الطويلة التي ستأتي في ما بعد لا يُعَدُّ خسارة. وإذا سلمنا بما تقول، وأن لا أحد منا يعلم ماذا يحدث بعد الموت، فنحن أمام خيارين، أولهما أنه لا جنة ولا نار، وفي هذا سأحتسبُ أن كل أعمالي كانت أعمالا نيتها الصلاح والشكر على النعم التي أنا فيها. أما الخيار الثاني، فهو أن هناك جنة ونارًا، وقد عملتُ بأسباب مجانبة النار ودخول الجنة". وتمضي الرواية جاعلة من تضاد الرؤى مصدرًا لجميع الأحداث التي نعيشها في هذا العالم؛ والحياة في مجملها رحلة بين بهجة وآلام: "هكذا هي الحياة، فكما أن في الحياة خريفاً كخريف جنوب عُمان يجلب البهجة، فإن هناك خريفاً يُسقِط الأوراق ويذهب بالبهجة، لكن تلك الأوراق المتبقية على غصون الأشجار، يمكنها أن تقاوم السقوط حتى يأتي الربيع مزهرًا قشيبًا". وهلال الشيذاني حاصل على شهادة الدكتوراه في الإدارة الاستراتيجية للتعليم العالي من جامعة ليدز في المملكة المتحدة، وشهادة الماجستير في الإدارة التربوية من الجامعة نفسها. ويعمل خبيرا في الاستراتيجيات والتطوير في أكثر من هيئة خاصة ورسمية من بينها جامعة السلطان قابوس.
مشاركة :