لم تبرح الرواية مكانها الذي احتلته منذ القرن التاسع عشر في تصوير وسبر أغوار المجتمعات والأنظمة والمعتقدات بتتبع قضاياها وتبني ونقد أفكارها بخلق عوالم موازية وحيوات مغايرة وإن لم تبادر بدعوات لفضيلة والسلام، لكن جنحت بمناهج لإعادة فهم قضايا تاريخية راسخة ومؤثلة، لا غرو كانت لفترات الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية نصيب وافر من التناول فيها. وبما أن الرواية كجنس أدبي لا يعمل في تسجيل الحكايات كتوثيق تاريخي أو ملحمي، بل يتناول الجوانب الفكرية والحالة المجتمعية للأفراد والشعوب والبواعث للأحداث الكبرى، فكان للديكتاتوريات والأنظمة الشمولية نصيبا راسخا في تاريخ البشرية مما أضفى عليها طابع أسطوريا بما تجاوزته من أفعال تجاوزت الطبيعة البشرية، فأضحت وحي مغري لتناوله في الرواية، فنجد تجسيد الديكتاتورية التي تمازجت بالقداسة كما في رواية "الأفعى ذات الريش" (Le Serpent à Plumes) للكاتب د. ه. لورانس، أو زعزعة الفكرة التي تتبناها وتشويه صورة الإله القائد كما عمدت رواية "السعادة النازية" 1975 لميشال راشلين، بينما طغت السخرية اللاذعة وهي السمة التي سادت في السواد الأعظم من الروايات خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، فكان نصيب جورج أورويل وماركيز ويوسا، غدت الصورة المجسمة للديكتاتورية واتفقت عليها معظم الروايات هي التهافت للجنس والحماقة والاستبداد الطاغي. في رواية "ركن المنبوذين" للدكتور محمد الطيب الصادرة عن دار مدارك سبتمبر/أيلول 2023، تجلت سمة الموضوعية في تناول الديكتاتورية والشمولية وأثارها المجتمعية والعقدية والفكرية سواء، بيد أن الكاتب لم تغره مزايا ودسامة الفكرة العامة للديكتاتوريات ليرتع قلمه بلا توقف وصفا وتسجيلا لعوالم مكررة في الروايات السابقة، لكن جنح بانتقاء المكان (الفضاء) بذكاء وروية، وفعليا كان المكان شاهد على حقب التاريخ السياسي والاجتماعي للخرطوم. ساحة اتني تلك الرقعة التي تتبوأ قلب الخرطوم أو ما جرت عليه التسمية "السوق الإفرنجي"، حيث باتت بمعمارها الطبوغرافي الذي وظفه الكاتب وبعث في جنباته حيوات صاخبة، وإن كانت في مصائرها صريعة وسوداوية وموغلة في الضياع. "اتني في الأصل عبارة عن فسحة صغيرة ولدت في بدايات القرن العشرين، تتوسط دكاكين أقمشة القطن الفاخر وسترات الصوف الناعمة المستوردة من السوق البريطانية، والأحذية الإيطالية دقيقة الصنع، والعطور الفرنسية الساحرة، أصحاب المحلات من الأرمن واليونان يذكرونك بالقطط المنزلية بهدوئهم الزائد وتعاملهم اللطيف وحذرهم البالغ" ص 8. ثم يتحول المكان وإذا جاز تسميته الفضاء كمصطلح دلالي أو منظوري، حشد فيه الكاتب شخوصه وإن غلب عليهم طابع نخبوي من شتى المجالات، صحفيين، فنانين، رسامين، طلاب معاهد عليا، انصهرت وتلاحمت، وتنافرت في أحيان أخرى لكنها صنعت مزيج خلاصته الخذلان والإحباط وضياع المستقبل، فذابت تلك الوجوه في مسام المكان، "حين تتجول في الساحة يواتيك شعور بأنك تقلب الصفحات من صحيفة تحمل أدق تفاصيل الخرطوم الثقافية والسياسية، بل حتى الأسرار الخفية وهمسات الليل وحديث الغرف المغلقة" ص 9. فإذا أجزنا المضمون الدلالي والبنيوي لعتبة العنوان "ركن المنبوذين" نجده حقق تجليات أنطولوجيا السرد، وماهية المتخيل، بذلك حسم التخمينات بصورة ناجزة تعمد فيها الكاتب تحديد مدى إشاراته في النص الروائي. فتجلت شخصيات الرواية بلا استئذان، لكن لم يكن ارتباطها بالمكان إقحاما أو كما درج في الكلاسيكيات الكبرى بتسميته المعادل الموضوعي، فهي شخصيات يقظة وذات نزعات متباينة طحنتها فوضوية مجتمعية وسياسية، لا تتنازع في ميزان الخير والشر، أو الفضيلة، بل هي ترسو في غياهب عزلة وصراع نفسي حاد، أفضى بعبثيته إلى تحولات جوهرية، لم يقدمهم الكاتب قربان لفكرة أو معتقد أو حزب أو وطن، وهي قضية وجودية شائكة تفضي للرفض والتعايش مع اللاشئ. "وظـل عبـر السـنوات يـزداد عددهـم وينحسـر، ولكـن كان هنـاك اتفـاق غيـر مكتـوب، أن كل مـن يجتمعـون فـي الركـن إمـا أنهـم فصلـوا مـن أحزابهـم أو كفـروا بهـا، ومـرت وجـوه كثيـرة علـى المـكان لمعـت لبرهـة مـن الزمـن فـي فضائـه ثـم واراهـا تراب النسيان" ص 23. فوظف الكاتب تقنياته الفنية في شخوص الرواية منتهجا الرمز كوسيلة أو أداة فنية، والرمزية كطريقة تعبيرية، لم يجنح للتجريد والإسقاط المباشر، فلاحت شخصية العازة، "الناظـر للعـازة فـي ذلـك الوقـت لـن يسـتطيع الجـزم بأصلهــا، فــإن لــم يشــغله جمالهــا عــن نســبها، فســتربكه ملامحهــا التــي احتــوت الســودان بأركانــه داخلهــا" ص 24. ولجت العازة "ركن المنبوذين" في زمن أرخ له الكاتب بالأزلية، كانت غضة طرية تسعى بعجلة إنتاج (صنع الخشاف)، لكن امتص عبيرها وعودها غرباء ولجوا الساحة بلا استئذان، لا يعرفهم أحد، تعاقبوا في الزواج منها بالترتيب، إبراهيم، جعفر، عمر. وهذا إسقاط متعمد انتهجه الكاتب للإشارة للديكتاتوريات التي حكمت السودان منذ فجر الاستقلال، كانت العازة تعود بمظهر منكسر وباهت بعد كل زيجة فاشلة، حتى واتتها المنية في يوم اثنين أسود وهو موت حلم وحدة السودان والبدء في التقسيم. ثم طغت ثنائية عادل وسلمى باستحواذ جل فصول الرواية، علاقة وضع لها الطرفين معيار مثالي يدركان في نفسيهما استحالة تحقيقه، ليغدو حلم بلا ساقين، يكبر ويترهل لكن يظل كسيحا مقعدا. "يتــراءى مــن طيــات زمــن مضــى عــادل وســلمى وهمــا يجلســان فــي زاويــة بعيــدة من ركن المنبوذين من ينظر إليهما يدرك إن كيوبيد كان ماهرا في تسديد سهامه إلى قلبيهما. ومن يلاحظ عنق سلمى المائل وابتسامتها الماثلة وعينيها الحالمتين وطرف حقيبتها الجلدي وهي تعبث به بين أطراف أصابعها دون أن تنتبه يدرك أنها غارقة في حب عادل" ص 12. انتهز الكاتب صنع رمزية مبهمة غارقة في أطياف علاقة لن تتحقق يوما، أحزاب تقليدية وعقائدية منذ مؤتمر الخريجين، فشلت في تأسيس حكم رشيد، رغم ريادتها، لكنها غارقة في جمود ورومانسية، وتقليدية وولاء طائفي "لا تشبهك هذه العلاقات، من مثل سلمى يبحثون عن زوج وأطفال، منزل ومسؤولية وهذا لا يناسبك" ص21. ثم تظهر شخصية صباح بضجيجها وسيرتها الغامضة، وعبثها وعدم مبالاتها ومغازلتها لكل رواد الساحة وركن المنبوذين، "ومن المسلم به أن صباح كانت مركزا أنثويا مشعا داخل ساحة اتني بتلك الدعوات الخفية والهمسات التي تدور حولها في جميع الأركان بلا استثناء ولا مبالاتها بكل هذا وهي تنتقل في أرجاء الساحة بنشاط نحلة وهمة صياد" ص 11. تمثل برمزيتها الجماعات والحركات المسلحة، لا تفرق بين يمين أو يسار، بل لها قابلية في مقارعة الكل بلا تميز، لا تملك رصيد فكري أو نضالي سوى صنع الفقاعات اللحظية. ورغم عدم اعتماد الكاتب على بطل الرواية واختزال السرد في التدفق التلقائي وإيقاظ الذاكرة دون قانون أو تسلسل منتظم، منتهجة بذلك الرواية صفة حداثوية، يقول جيسي "باتت الحياة الداخلية للأفراد في العالم الحديث فيضا وتمازجات، سلسلة من الذكريات والإدراكات والرغبات التي تتدفق في جريان لا ينقطع". أما الحبكة لم تحمل السرد منعرجات وعقد مقحومة بعناء، بل تبنت التطور في مدى الحفاظ على الأفكار والتوجهات والرغبات وعدم التخلي عما تروم إليه الشخصيات. قضية الثورة كانت حاضرة، رغم عدم اليقين بحدوثها، لقد كان الاستقطاب بلغ شأوه، والإحباط استحكم حتى في نفوس طبقة الشعب، وظل الرهان على انبعاث الثورة بين مطرقة الجوع كما يسوق عادل أو الوعي كما هدف إليه منذر. الحوار بين الشخصيات في الرواية تدرج ما بين اللغة العالية والأفكار الفلسفية، وما بين اللغة المتوسطة، وهو حال الشخوص الذين ينتمون لمدارس فكرية وخلفيات حزبية أيديولوجية. برز استخدام الجنس في الرواية خاصة في علاقات عادل المتعددة، واكتسب دلالة توظيفية في إظهار النشأة الأخلاقية المهزوزة التي صاحبته طوال مشوار حياته، وكان معلل لفشل حياته العاطفية في المستقبل. ويمكن القول إن الرواية "ركن المنبوذين" رواية مكان بامتياز وأجابت عن كثير من التساؤلات التاريخية والفكرية دون الوقوع في فخ التسجيلية. ويحسب للكاتب جرأته في نقد القضايا التي تدست في ركن المسكوت عنه، فجردها وعراها أمام التاريخ، وكذلك يجدر الإشادة بقلم الكاتب الذي قدم الرواية في قالب شيق ورشيق لا ينفذ السأم بين طياته، يملك قدرة فائقة لتصوير المكان والشخوص وتصوير أدق المشاعر الإنسانية، فجاءت رواية "ركن المنبوذين" في ثوب أنيق ورشيق وصادم.
مشاركة :