«شوق الدرويش» لحمّور زيادة... ثنائية العشق والانتقام

  • 9/6/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بخيالٍ ساحر، كتب الفائز بجائزة نجيب محفوظ العام 2014، حمّور زيادة، روايته «شوق الدرويش» بأسلوب سرد بالغ التشويق، متنقلاً برشاقة متأنِّية بين أحداث وأزمان كثيفة ومتشابكة. لا يسمح زيادة لانتباه القارئ أن يسكُن لتسلسلٍ في أحداث الرواية وما يدور فيها من تفاصيل؛ سواء على مستوى أبطالها الأساسيين؛ أو على مستوى الإطار التاريخي أو الجغرافي الذي دارت أحداث الرواية فيه، فترك لـ «الراوي العليم» كما يسمِّيه زيادة، القياد يذهب بالأحداث كيفما يشاء فيضعها في غير ترتيب بما يحفظ عنصر التشويق قائماً من الصفحة الأولى التي مهرها بمقولة ابن عربي: «كل شوق يسكن باللقاء، لا يُعوّل عليه»، حتى الصفحة الأخيرة من الرواية حين واعد بطل الرواية، العاشق الأبنوسي بخيت منديل، نفسه بلقاء لا فراق بعده، قائلاً: «إنما هو لقاء يسكن بعده الشوق». تدور الرواية في حقبة مهمَّة من تاريخ تكوين السودان وهو سقوط الحكم العثماني التركي وقيام الدولة المهدية، وهي القائمة على فكرة المهدي المنتظر، إلا أن الكاتب اختار لبدء روايته، سقوط الدولة المهدية «المنتظرة» العام 1889، بعد خيبة الأنظار التي تعلَّقت بها كي تخلِّص السودان وشعبه من الجور والظلم، وجعل في سقوط الدولة نيلاً للحرية لبطل الرواية الرئيسي الذي كان قد قضى عدَّة سنوات في سجنه. وفي ربطه السقوط بالتهاني بالحرية التي جاءت على بوارج الغزاة المصريين مرّ، كراوٍ، على الجانب التاريخي للثورة والدولة المهدية أكثر من المعتقد وترك لشخوص الرواية يقومون بالممارسات التي لابد وأن تشي - بدرجة ما - بقراءته لتلك الحقبة من التاريخ. استخدم زيادة أسلوب ومض الذاكرة أو ما يسمى (الفلاش باك) في سرد روايته، مُقسّماً أحداثها إلى أجزاء تشبه الخيوط الذاهبة كل إلى اتجاه، ويتناوب على بنائها واحداً تلو الآخر، ثم يتوقف ويعاود البناء بغير تسلسل تاريخي واضح؛ ما يرفع درجة التشويق عندما تتكشَّف أحداثها بتأن ماهر، يجعل تجنّب التلصُّص على صفحات نهايات الرواية ضرباً من المشقة على القارئ إن أراد الاحتفاظ بترقُّبه لمجرى الأحداث كما يودُّ لها كاتبها. عشق وانتقام سيطرت على الرواية في فكرتها الأساسية ثنائية العشق والانتقام، فالعشق في معناه المطلق، كان محرك بخيت منديل، وكل ما بعده، كان مسيّراً بأمره، فكلما لاح له طيف معشوقته حواء طاب له مذاق كل ما يبذله من أجلها، إن كان حديثاً جميلاً أو انتظاراً قاتلاً أم غيرة مدمّرة. فيقع الانتقام الوحشي من أجلها، الذي هو محور أحداث الرواية، موقع الرضا في نفسه، وكلما سوئل: «كيف هو قتل الثأر يا بخيت»؟ رد ساهماً منتشياً، ينظر ولا يرى وكأنه في حلقة ذكر: «إنه الحياة... كالحب... ربما أشهى». إطار الرواية الموازي، كان العشق أيضاً، محرّك الدراويش، وإخلاصهم للثورة المهدية التي قادها محمد المهدي واعداً الشعب السوداني المنهك من ظلم الترك والمصريين، بالخلاص وإعادة الكرامة، وغذّى الحلم بفتح مصر والشام ومكة ومنها إلى العالم، لكن ينتهي الأمر بهم يسيرون في الطريق الدموي ذاته لسابقيهم، ويستبيحون الدماء والأعمار والأعراض تحت عنوان الانتصار للدِّين وقتل الكفار به. كان سلوكهم انتقامياً لم يخرج في قسوته ودمويته عن الأنظمة التي جاء لإزاحتها، فكان جهادهم أشبه بإعادة تدوير القوة والوحشية، ورخص الدم فعرفت البلاد الجوع والموت، وكانت المدن التي فتحتها كـ «الأرض التي ملئت بالإيمان ثم خربت به». الحكاية بطل الرواية، هو عبد أسود «بخيت منديل» اختُطف عندما كان صبياً وبِيع في السودان. وبين السودان ومصر جرت أحداث حياته التي هزَّتها دهشتان كبيرتان إحداهما، عندما رأى القاهرة للمرة الأولى، والأخرى عندما وقعت عيناه على حواء/ ثيودورا، المرأة التي عشقها على رغم المسافات الكبيرة بينهما، وأصبحت منذ تلك اللحظة محور أيامه. لم يعرف بخيت منديل الحرية في حياته فقد ظل مكبَّلاً بوضعه الاجتماعي، وقاسى العبودية على يد أسياده في الجنس وفي خدمة البيوت. هرب إلى مصر بحثاً عن حياة أفضل لكنه عاد إلى السودان بعد أن كاد يموت جوعاً. وما كاد ينال حريته حتى أعلن أنه مقيَّد بالعشق وبِدَيْن العشق؛ وما الحرية بالنسبة له إلا الوفاء بهذا الدَّيْن. وكان الوفاء بهذا الدَّيْن دموياً؛ إذ أمضى دورهُ في الرواية منتقماً باحثاً عن ستة أشخاص ليقتلهم واحداً تلو الآخر من أجل ثيودورا أو حوائه. ثيودورا المصرية، اليونانية الأصل جاءت إلى مصر في بعثة تبشيرية كاثوليكية أرثوذكسية لتعليم أبناء الجالية اليونانية في الخرطوم، التي كانت تسمَّى أوروبا السوداء حينئذ لوجود العديد من الجاليات الأوروبية فيها. تنذر ثيودورا نفسها لخدمة الرب كي تخلِّص روحها من ذنب انتشائها بقبلة ابن بائع الزيتون في عمر الثالثة عشر. فتعشق العمل في الخرطوم وتتعرَّف على عائلة مسيحية تتبنَّاها روحياً، وتقضى أوقاتاً سعيدة في عملها التبشيري بصحبة الأب بولس وزميلاتها، إلا أن حياتها أخذت منحى آخر باندلاع الثورة المهدية واستهداف المسيحيين. ذُبح رئيس البعثة أمام عينها وبيعت الفتيات للعائلات الميسورة. وكان نصيب ثيودورا عائلة ميسورة. سيدتها طيبة القلب تصبح لها كالأم في مقابل سيد قاس، فشلت كل محاولاته للنيل منها ومعاشرتها فأمر بختانها لتأكيد إسلامها وصار اسمها حواء. وقع بخيت منديل أسيراً في عشق حواء منذ اللحظة الأولى التي رآها فيها في حوش سيدها، يلفّها حزن عميق بسبب موت سيدتها. تكرَّرت لقاءات كان يتحيَّنها من جانبه في سوق المنطقة وارتبط الاثنان بعلاقة محيّرة بالنسبة إلى بخيت منديل حتى النهاية، لكنه كان مندفعاً بحبه اللامشروط لها، ورغبته في الزواج الذي قابلته في كل مرة بصدِّ غير مفهوم. حتى جاء اليوم الذي غادرته فيه طلباً للهرب دون أن تعلمه خوفاً من أن يفسده عليها حبه الشديد لها ورغبته في استبقائها قريبة منه. فغدر بها المهربون، وأعادوها إلى منزل سيدها طمعاً في المكافأة، حيث قُتلت بعد تعذيب وحشي تعرضت له على أيدي المهرِّبين وسيدها، وهم من صاروا فيما بعد على قائمة انتقام بخيت منديل. عنصرية كشفت الرواية عن تعالٍ وعنصرية تجاه السودانيين والجنس الأسود. فظلت عبارة والدة ثيودورا التي نصحتها بها وقت مغادرتها للسودان للمرة الأولى منطبعة في ذاكرتها طيلة رحلتها، قالت لها أمها إنها «ذاهبة إلى شعوب طبعها الغدر، متوحشين كحيوانات المزرعة»، وقالت لها: «إنكِ الراعي لخراف الرب السوداء». ظلت الوصية الاستعلائية التي زوَّدتها بها أمها الحسناء أساس نظرتها للسودانيين حتى بعد أن عانت الرق من جهة، وخبُرت الحب الحقيقي الذي غمرها به رجل أسود من جهة أخرى. وانعكست هذه النظرة على علاقتها ببخيت؛ حيث اعترفت في مذكراتها بميل قلبها له، لكنها لم تنسَ أنه أسود في جوانب أخرى من هذه المذكرات. العنصرية نفسها ظهرت في تصرُّف الأب بولس عندما عُوقبت الخادمة الزنجية بوحشية وشقت السياط جلد ظهرها أمامهم عقاباً لها على ذنب سرقة صليب ثيودورا الفضي الذي لم يثبت اقترافها له، واعتبر نهي جلّاديها تدخلاّ في سير العدالة، ما قد يكون مشجعاً لآخرين أن يقوموا بمثل هذا الفعل. وكانت العنصرية «البيضاء» تقابلها عنصرية «سوداء» فقبل انغماسه في عشق حواء، وصف بخيت منديل البيض بأنهم ذوو أجساد مسلوخة تفوح منها رائحة النحاس الصدئ، فكان ينصاع لرغبات ابنة سيده التركي ذات الأربعة عشر عاماً مرغماً بتقزز بالغ. الفارق أن السود لم يكونوا ليملكوا خيار التعالي بعرقهم. بعد فوات الأوان حتى قبل موتها بلحظات لم تعرّف ثيودورا أو حواء حبها لبخيت منديل، كانت تكابر حبها له. في مذكراتها التي أعطتها لبخيت منديل في اليوم الأخير قرأ بخيت حيرتها بشأنه، وكيف تراه عاشقاً لكنه عبد لا يستحق أكثر من التأمل! وفي مكان آخر من المذكرات استكثرت بخيت منديل على المدينة «بخيت منديل، لا يشبه هذه المدينة» واعتبرت سيرته جديرة أن يكتب عنها الأدب الغربي كعاشق من مسرحيات شكسبير سقط سهواً في هذه البلاد الوحشية». وكررت ما يشي باستعلائها في عبارة «لولا انه أسود، لولا أنه عبد من الدراويش» هذه الكلمات القاسية كانت سبباً لعدول بخيت منديل عن الذهاب للقائها في المرة التي تعرف حواء وحدها أنها الأخيرة، وكانت تنوى أن تمنح نفسها وبخيت منديل، لمرة واحدة قبل أن ترحل، ما تمنَّعت عنه فيما مضى. بخيت الذي تجرّع الخيبة مما قرأ في مذكرات حواء، عاند للمرة الأولى والأخيرة فلم يذهب في أثرها كما طلبت منه، في هذا الوقت تحديداً، في لحظة الاستعداد للهروب، تكشَّفَت لحوائه حقيقة مشاعرها ناحيته، وأنه كان كل ما تراه في هذا العالم. جاء اعترافها لنفسها بحبها لبخيت في لحظة الإحساس بفقده، لحظة اللاعودة ومهربوها يتربَّصون بها طمعاً في دراهمها ودراهم سيدها إبراهيم ود الشواك. أنهى بخيت حكاية انتقامه بقتل خمسة ممن كان يستهدفهم بعد أن سُجن السادس. وتخلى بخيت منديل مختاراً، عن الهرب من القتل شنقاً جزاء «جرائمه» بعد أن سنحت له الفرصة، وقال لمن سيأخذه لحتفه «أنا ميت يا ابن العرب منذ سنوات، لكن لي دَيْن واجب السداد». كان يتعالي على عذاب سجنه وشظف العيش ومرارة الفقد بما أسماه بوجع أكبر في داخله يحصنه عن كل عذاب آخر. ظل وفياً لعشقه لحواء، متشوِّقاً للقائها منذ لقائهما الأول حتى بات ما يفصلها عنه حبل مشنقة. اعترافها بحبه جاء على لسان الراوي فلم يعلم بخيت به لكنه عذرها. في جملته الأخيرة اختصر كل حياته «لقد عشت حيوات كثيرة يا حواء، أكثر مما أتحمَّله، ربما ما عشت طويلاً لكني عشت كثيراً. وما وجدت حياة أحلى من التي كانت أنتِ. فقط لو أحببتيني! لكني لا ألومك لقد تعلمت أن الحب كالقدر. لا تملك من أمره شيئاً». الرمزية ترك حمّور للقارئ مجالاً كبيراً لنسج إسقاطاته على الرواية، برمزية الأحداث والشخوص فيها كثيودورا التي حملت استعلاء المستعمر، ولم يُثنِها عشق بخيت منديل لها عن استغلالها له، واعتباره رفيق درب لا يستحق حتى أن تشاركه قرار مصير العلاقة بينهما؛ على رغم هيامه بها، واستعداده لفعل أي شيء وكل شيء كي يسعدها، كالمستعمر تماماً، تذكّر نفسها دائماً بإبقاء مسافة بينها وبين بخيت فكتبت في مذكراتها: «من أعظم العيوب أن تتعلق بأي شخص بأي صفة» وتقول: «لا تحب بعنف كي لا تتألم بعنف، لا تحب كي تخرج لا لك ولا عليك». فيما نحت زيادة مريسيله لتكون امرأة المهمات المتعدِّدة، التي أنجبتها أمها من الجن، على رغم جراحها ومعاناتها الكبيرة إلا أنها كانت متواجدة للجميع بحلولها السريعة والناجعة، قد تكون مريسيله رمزاً للوطن، الذي لا يكف يحتضن أبناءه، ينسى أخطاءهم ويغفر خطاياهم. وظّف حمّور مريسيله لإحكام حبكة وصول بخيت لطرائده «الستة» بعلاقاتها ودرايتها، فأنهى دور جوهر، صاحبه في السجن، لتحل محله قريبته، خارجه وتكون عونه حتى النهاية. التهام أم مريسيله لولدها الرضيع، كان رمزاً للفظائع التي لا يصدِّقها عقل وتُرتكب باسم الدِّين، بعدها تعتصرها الحسرة فلا تقوى على تجاوز ما فعلته فتموت. بانوراما ومن بين أحداث الرواية التي أعطى الكاتب زمامها لأبطالها الأساسيين، كان أيضاً حضور الشخصيات والأحداث الجانبية مكملاً مهماً لروعة التفاصيل التي حفلت بها الرواية، وساهمت في استكمال مشاهدها بكل ما فيها من تفاصيل يومية في حياة كل منهم، وتتبُّع أماكن التشابك بما يفكِّك غموض الرواية تدريجياً، ويثرى القارئ بكمٍّ من المعلومات عن أحداث يصعب التفريق بين واقعيتها أو نسبتها للخيال. الأسلوب الذي كتبت به رواية «شوق الدرويش» يجعل من كل كلمة وكل جملة وكل فقرة، مكوّناً مهماً في بناء الرواية لا يمكن الغفلة عنه، وإلا تفلَّتت الخيوط وتفكَّكت الأحداث. التشويق العالي الذي صاحب أسلوب ومض الذاكرة، يُبقي القارئ مشدوداً ومشغولاً، وموزِّعاً انتباهه ما بين السرد المشوِّق للأحداث، لمعرفة ما سيأتي، وبين محاولة القبض على جمال تراكيب الجمل وعمق المعاني. ففي كل منها لوحة تأخذ القارئ إلى المكان والزمان ليسمع ويرى ويشم رائحة العفن، وينتشي ويفرح ويصرخ ألماً مع شخوص الرواية. فهي رواية لا تترك لحواس القارئ خيار السكون، بل تشده إلى ما يدور فيها حتى ليشعر أنه صار جزءاً منها، حتى ليكاد يقول شيئاً أو يفعل، ليوقف الزمن، ويغير الأقدار. يُذكر، أن حمّور زيادة، مدوِّن وكاتب صحافي وروائي سوداني، حائز على جائزة نجيب محفوظ الأدبية العام 2014 عن الرواية موضوع الاستعراض. ولد في مدينة أم درمان في السودان ونشأ بها. تولى مسئولية الملف الثقافي بصحيفة «الأخبار» السودانية. تعرّض لانتقادات من التيارات المحافظة والإسلامية بالسودان لنشره قصة عن الاعتداء الجنسي على الأطفال، واعتبر جريئاً يكتب ما يخدش الحياء العام للمجتمع. بعد التحقيق معه تعرض منزله للاقتحام وأحرق في نوفمبر/ تشرين الثاني 2009، ولم تعلن أي جهة مسئوليتها عمَّا حدث بشكل رسمي. صدرت له في القاهرة عدة أعمال أدبية من بينها: «سيرة أم درمانية»، مجموعة قصصية (2008)، «الكونج» - رواية (2010).

مشاركة :