اعتدنا على أن علاقة الإنسان بجسده والحديث عنه لا يتعدى إطاراً محدداً، ما جعلنا نؤطر محاورته والتخاطب وإياه على أنه ترويج لعلاقة مسيئة للظن، أكثر منها علاقة كيان بكيان آخر.وقد تكون فكرة مخاطبة هذا الجسد أو سبر أغوار حياته، و التواصل معه على اعتباره شخصية أخرى ملازمة للإنسان الحقيقي وهو الروح، فكرة جديدة وغير مطروقة كثيراً، لكنها لن تصبح كذلك في مجال الأدب والفن المرتبطين بالمخيلة. وهذا ما فعله المؤلف الفرنسي في روايته المعنونة بمذكرات جسد معترفاً بأنها مجموعة ذكريات كتبها والد صديقته ليزون والتي جلبت له يوماً مجموعة دفاتر قديمة، وقالت بأنها مذكرات والدها الذي توفى قبل مدة قصيرة، وكان يسجل فيها طوال عمره يومياته التي اكتشف بناك بعد قراءتها بأنها حكايا مذهلة عن جسده. لقد دفعت هذه المذكرات بناك بعد قراءتها لإعادة صياغتها وكتابتها على شكل رواية من مجموعة يوميات معنونة بيوميات جسد. هذا الجسد الذي جذبت حكاياته بناك لم يكن هو الجسد البيولوجي أوالنفسي الذي نعرفه ونتواصل معه، لكنه الجسد الراوي الذي يحكي لنا كل ما حدث، ويصف لنا حياة كاملة عاشها والد ليزون بكل ما فيها من نقائص وعيوب، وما واجهه من مشكلات، وكل ما يمكن أن يشعرنا بكينونة هذا الجسد الذي فكر ورأى وحكى. المذكرات التي يسجل فيها هذا الجسد حكاياته ستعيد للجسد أهميته، فهو المؤثر والمتأثر، وهو بطل الرواية التي يروى لنا فيها كل شيء. ويقول بناك في مقدمة روايته بأنه الكاتب الثاني لهذه المذكرات بعد إعادة كتابتها لتصبح على شكل يوميات، يتكلم فيها الجسد الذي قال والد ليزون الكاتب الأصلي لهذه المذكرات بأنه كتبها لأنه يريد كتابة مذكرات جسدي لأن الجميع يتحدّثون عن أشياء أخرى. ويذكر بأن ما جعله يسجل هذه المذكرات حادثة وقعت له وهو طفل يلعب في الغابة مع رفاقه من الكشافة، حينما قبض عليه أولاد فريق كشافة آخر، وأوثقوه بالحبال إلى شجرة صمغ. لقد وضعته تلك اللحظات المرعبة في قلب أول شعور بالخوف في حياته، وولدت رغبته لاحقاً في تطوير علاقته بجسده المقيد بلا قوة، والنمل يجتمع من حوله. كان جسده هو أول من فكر فيه، فهو معرض لنهشات النمل والقوارض الأخرى، وقد اضطر لأن يبلل نفسه من الذعر وواجه فصله من فريق الكشافة بعد اكتشاف الحادثة المروعة، لكنها أشياء ولدت رغبته بتطوير علاقته به. سوف يحكي لنا هذا الجسد الكثير بدءاً من علاقته بأمه وموت الأب والخادمة فيوليت ودخوله المدرسة الداخلية، وانضمامه إلى المقاومة الفرنسية ومسيرة علاقاته العاطفية، حتى زواجه وتأسيس عائلته إلى أن يصل إلى الشيخوخة.. هذا الجسد الشاهد على حياة حافلة.
مشاركة :