أعود إلى زمن الذكريات وكنت انتهيت في الحلقة السابقة بما قدّمته والدتي حليمة رحمها الله وغفر لها ولأموات المسلمين من تربية وإشراف وحنان، ومنها بدأت دراستي الابتدائية في مدارس أبها السعودية والفيصلية واللتين أعتبر مدرسيهما عباقرة عصرهم وأفاضل بعلمهم الغزير، دهاةً في كسب الطفل الطالب والمراهق الجامح يتعاملون بعقل وحكمة وهدوء مع هؤلاء بالتشجيع والغوص في داخلهم بروح الأبوّة، لن أنساهم وجيلي يتذكّرهم بفخر واعتزاز ساهموا جميعاً في طفولتي بأن أتعلّم كل المبادئ من أجل الحرص على التّعلّم ضمن مناهج خفيفة محببّة، وكان المعلّم المربّي الأول لنا بل نراه مكان الأب هيبةً ومكانة وتقديرا وكان لكلّ معلّم اسلوبه منهم المتشددّ القاسي ومنهم اللّين الرّؤوم الرّحوم، ولكن بصفة عامّة فإن التعليم في زمننا حينذاك وبالرغم من شظف العيش وقسوة الحياة وانْعدام الخدمات يختلف عن التعليم اليوم تطبيقاً ومناهج واحتراما، بالرغم من توفّر كل وسائل الراحة إلاّ أن جيل الزمن الماضي من الجنسين كان جيل الكفاح والصبر والمثابرة يتعلّم من أجل التحصيل العلمي لا من أجل شهادة يعلّقها، ومتى ما حصل عليها فإنها رمز تفوّقه يفتخر بها بين أقرانه بعكس اليوم أصبحت الشهادة موضع شكّ عند البعض وخاصة من يحصل عليها من أجل الوجاهة لا غير!. وهذه فئة تفتقد كل المعاني السامية وتجعل منك أمام حرف دال لا يسمن ولا يغني من جوع يا الله ما علينا.. للعودة للذكريات ما يغْني عن الدخول في دهاليز تلك الفئة. بعد أن أمضيت فترة الطفولة في أبها الجمال والسّحر الحلال بدأت مرحلة التأمّل والبحث لتطوير الذات التي كانت حينذاك أكبر من المرحلة العمْرية، وطلبت من الوالد أطال الله في عمره والذي كان يسافر إلى مكة المكرمة كل نهاية شهر شعبان لصوم رمضان فيها أن أرافقه إليها وبعد إلحاح وافق ولكن بعد أن أقوم بأعمال لا يقوم بها إلا الأشدّاء!. ووافقت مرغماً لا بطل وتحققت الأمنية لأن بها سأرى والدةً غالية انقطعت عنها سنين طويلة من عمْري حالت الظروف من اللقاء بها وفرصة للعودة إلى مكان ولادتي وإعادة الذكريات في مهبط الوحي مكة المكرمة. وكانت ليلة السفر من أطول الليالي انتظاراً للصباح وكانت ممزوجة بالفرح، وأنني سوف أحظى لأول مرة بركوب الطائرة من أبها إلى جدة وكانت حينذاك من نوع (الداكوتا) والتي كانت تهبط على أرض مطار خميس مشيط الترابي، ولم يكن به برج اتصال كما اليوم بل كان مديره الاسكندراني يتابع إقلاع الرحلة من جدة بواسطة جهاز الراديو الذي نعرفه جميعا بواسطة ذبذبات لا سلكية تعلّم عليها وكان يخبرنا عن الطائرة بأنها الآن أقلعت من جدة وبعد فترة لقد وصلت إلى مطار بيشة ويتابعها حتى وصلت لمطار أبها وكان المسافر أو من يستقبل قادماً يغادر بيته في أبها للمطار قبل مطلع الشمس عبر سيارة وانيت محملّةً بوجبات الإفطار وكل ما يلزم لطبخ الغداء وأدوات القهوة والشاي ليقطع ساعات طويلة حتى يصل لأحد المرتفعات والهضاب القريبة من المطار ليمضي يوماً كاملاً في توديع مسافر أو استقبال قريب قادم. ومع أنني مسافر إلى مكة لكن كان يُطْلق على المسافر إلى مكة من قبل الأقرباء في أبها أنه مسافر إلى (الشام)! وكانت أول رحلة لي لخارج أبها.
مشاركة :