"لكي يلج الإنسان الأنوار، يستوجب الأمر منه الخروج من حالة القصور التي يوجد فيها بسبب خطئه الذاتي. فإن تكون قاصراً معناه: أنك غير قادر على استعمال فهمك الخاص دون توجيه من الآخر، لأن سبب هذا القصور الذي وجد الإنسان فيه نفسه لا يعود إلى خلل في الفهم، وإنما إلى ضعف القرار والشجاعة على استعمال فهمه دون توجيه من أحد". إمانويل كانط، وفي نصه أعلاه، يسعى إلى الإجابة على سؤال "ما هي الأنوار؟."، محاولاً رسم أولى ملامح الطريق نحو الخروج من ظلمة الجهل والضعف والتردد والهزيمة والتبعية، إلى نور العلم والمعرفة والاستقلال والشجاعة. الأنوار ليست مجرد معرفة ذهنية وتحصيل أكاديمي، أو تراكم خبرات حياتية. وليست مجرد خوض في بطون الكتب وحفظ لمتونها. إنما هي عملية أكثر تعقيداً، ترتبط بإرادة "الحرية"، وتحديداً حرية التفكير واتخاذ القرار. أي القدرة على إعمال الفهم الخاص قبالة الفهم الجمعي أو اتجاه الفهم السائد بمنطوق القوة أو السياسة أو الدين أو المجتمع. من هنا فإن الأنوار لا يمكنها أن تشع في الأنفس الضعيفة. وهو ما يحيلنا إلى مفهوم نيتشه الأثير عن "القوة" و"العقول المتعالية"، وكيف أن هذه القوة هي من تقود زمام النفس والعقل لتكون للفرد رؤيته المستقلة التي لا يتبع فيها الآخرين، حتى وإن اضطر لهجرهم أو البعد عنهم أو التخلي عن مكاسب مادية وامتيازات عدة، يراها نيتشه غير جديرة بالاهتمام، بل تافهة ولا قيمة لها بتاتاً، طالما هو سيكون في "الأعالي". إن السياق المجتمعي الخامل والرتيب للأفراد، هو ما يدفعهم نحو الضعف في كثير من الأحيان، ومن هنا يقول كانط إن "الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران بقاء أكبر عدد من الناس قاصرين طيلة حياتهم، بالرغم من أن الطبيعة حررتهم منذ أمد بعيد". من هنا نرى أن المخيال الشعبي، والقصص، والأمثال، جميعها تحيل إلى "إيثار السلامة" و"السير مع الجماعة"، و"حشرٌ مع الناس عيد"، مغذية بشكل سلبي نزعة التبعية والاستسلام، وقامعة في الفرد روح الفردانية وحرية الاختيار والتفكير، والتي هي أساس أي عملية تطور وانتقال من حال الجماعة إلى طور المجتمع المتمدن الحديث. في محاولة منه لاستفزاز الأنفس والعقول، يقول كانط بنبرة حازمة "لتكن لديك الشجاعة على استعمال فهمك الخاص". مقرعاً تلك الذوات القابعة تحت سيطرة الآخرين، والمترددة والخائفة من أن تكون لها كينونتها الخاصة!. الحرية إذاً تحضر كشرط رئيسي لأي عملية تحول نحو التنوير والمدنية، وخروج من طور التبعية. ولذا "لنشر الأنوار، إذاً، ليس هناك أكثر أهمية من الحرية"، كما يقرر كانط. والحرية المشار إليها لا تأتي كمرادف للفوضى العارمة أو البوهيمية كما يسعى بعض المتخابثين أن يروج، وإنما هي تلك التي عرفها روسو بقوله "لا تبتني الحرية على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصة، بقدر ما تقوم على ألا يخضع لإرادة شخص آخر". أي إن الحرية هي نفي لسيادة إنسان على آخر أو سيطرته المادية والثقافية عليه. إن مبدأ "عدم الخضوع" للشخص، هو ما يمنح الحرية قيمتها، كونها تلغي مفهوم "السيد" الفرد، ليحل مكانه "القانون" الذي يتبعه الجميع ولا يتجاوزونه. وهنا ندخل في مستوى آخر من فهم الحرية وترسيخها كمدماك في بنية "الدولة الحديثة"، وهو ما يتطلب شجاعة أكبر في الالتزام بقواعدها وأنظمتها.. فهل لدينا الشجاعة الكافية لأن "نلج الأنوار"، أم أننا في عتمة "التخلف" و"البدائية" مقيمون؟!.
مشاركة :