د. محمد مبروك يكتب: الكرنك.. وقصة الأمس

  • 3/6/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن يتخيل هذا المُعلم الذي يعمل في إحدى المدارس الصناعية بمدينة السويس أن مصيره سيتغير بهذا الشكل بعد المشاجرة التي حدثت بينه وبين مدير المدرسة التي يعمل بها والتي تسببت في معاقبته بالنقل إلى الأقصر!لكن الشاعر الذي كان بداخل "أحمد فتحي" ابن "كفر الحَمَام" بمحافظة الشرقية، كان أسعد حظًا بهذا الانتقال الذي أتاح له الإقامة بين معابد الأقصر وآثارها الخالدة التي تتحدى الزمن، فكان يتجول بينها ويطيل النظر في النقوش التي على أحجارها وبداخله لواعج الهوى الذي أضناه البعد عن الأهل ومفارقة الأحباب مما كان له بالغ الأثر على حالته النفسية التي كانت في أصعب لحظاتها فاستدعت وحي الأشعار التي كان يكتبها كزخات المطر المتناثرة في صورة أبيات بديعة، كونت "أنشودة الكرنك" وبين أعمدة الكرنك الشامخة، وعلى ضفاف البحيرة المقدسة عندما كانت تعانق مياهها خيوط الشمس المتألقة لمعانًا على صفحتها، نظم لنا هذه الأبيات:حُلمٌ لاح لِعَينِ الساهرِ * وتَهادَى في خيالٍ عابرِوهَفَا بين سكونِ الخَاطرِ * يصل الماضي بيُمْن الحَاضرِطاف بالدنيا شعاعٌ مِنْ خيالِ * حائرٌ يسألُ عن سرِّ الليالييا له من سِرّها الباقي ويالي- * لوعة الشادي ووهمُ الشاعرِوقد كان الشاعر أحمد فتحي أحد المنتمين إلى مدرسة "أبولو الشعرية" التي أسسها الشاعر "أحمد زكي أبو شادي" وكان ينشر أعماله في مجلتها، وكما هو معروف عن هذه المدرسة التي تتسم أشعارها بالرومانسية والألفاظ الجذابة التي تحوي بداخلها الجرس الموسيقي الجميل، هكذا كانت كلمات وأشعار هذا الشاعر الذي كلما كانت تعانده الأيام، يواجه عنادها بكتابة الشعر... ورغم مرور فتحي بلحظات يأس كثيرة، كانت تسيطر عليه، قد أرسل قصيدة الكرنك إلى المراقب العام للإذاعة في ذلك الوقت - محمد سعيد لطفي -، والذي عرضها على الموسيقار محمد عبد الوهاب فأعجبته وقرر تلحينها للإذاعة! ومن المدهش في الأمر أن الشاعر أحمد فتحي كان قد تقاضى عن هذه القصيدة مبلغ ثلاثة جنيهات من الإذاعة، هذا بالإضافة إلى دخوله عالم الشهرة من أوسع أبوابه حين غني له الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب كلمات قصيدته، وكان عبد الوهاب قد ذهب خصيصًا للأقصر وجلس في رحاب معبد الكرنك الخالد ليستلهم جمله الموسيقية التي أبدعها في تلحين هذه الأنشودة الساحرة التي مازالت تشنّف الآذان حين سماعها بعد انتشار هذه الأغنية، صار أحمد فتحي يلقب ب"شاعر الكرنك"، لما كان للأغنية من شهرة وتأثير، لكن الأعمال التي تم تلحينها له بعد ذلك من الملحنين الآخرين لم تلق هذه الشهرة ولا كان لها ذلك الأثر الذي لاقته الكرنك حين غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1941وقد حاول فتحي تكرار تجربة الكرنك مع عبد الوهاب مرة أخرى، لكنه لم يفلح في ذلك، كما ظل يتمنى أن تُغني له السيدة أم كلثوم إحدى قصائده دون جدوى مما كان يزيد إحساسه بالأسى الذي ظل يلاحقه منذ فقدان والدته في سن مبكرة ومن بعدها والده ومن قسوة الحياة عليه وقلة أيامها الحلوة التي لا يلبث أن يعيشها حتى يعود إلى المعاناة التي يكابدها مرة أخرى سريعًاومن رحم هذه المعاناة وصعوبة الحياة وتجربته الشخصية المؤلمة كتب قصيدته الشهيرة الأخرى "قصة الأمس" والتي قال فيها:أنا لن أعودَ إليك مهما اسْتَرْحَمَتْ دقاتُ قلبيأنتَ الذي بدأ الملالةَ والصُّدودَ وخانَ حُبّيفاذا دعوتَ اليومَ قلبي للتصافي لا لن يُلبِّيكنتَ لي أَيّامَ كانَ الحبُّ لي أملَ الدُّنيا ودُنيا أَمليحينَ غنَّيتُك لحنَ الغزلِ بينَ افراحِ الغرامِ الأوّلِوكنتَ عيني، وعلى نورِها لاحتْ أزاهيرُ الصِّبا والفُتونوكنتَ روحي، هامَ في سِرِّها قلبي ولم تُدرِكْ مداه الظُنونوهي التي استهوت السيدة أم كلثوم فقررت أن تغنيها حيث قام الموسيقار رياض السنباطي بتلحينها، وفي عام 1959 غنتها أم كلثوم تحقيقًا لأكبر أحلام هذا الشاعر الحالم الذي نال شرف أن تغني له كوكب الشرق من أشعاره وتلحين الموسيقار رياض السنباطي بعدما غنى له من قبل الموسيقار محمد عبد الوهاب، ولكنه لم يطل به الوقت كثيرًا، فبعدها بعام واحد وافته المنية عن عمرٍ ناهز السابعة والأربعين على وقع كلماته التي كتبها في قصة الأمس:يا لذِكراك التي عاشتْ بها روحي على الوهمِ سنيناذهبتْ من خاطري إلا صدى يعتادُني حينًا فحيناقصّةُ الأَمس أُناجيها وأحلامُ غَدي، وأمانيُّ حسانُ رَقَصَتْ في مَعْبَديوجراحٌ مُشعلاتٌ نارَها في مَرْقدي وسَحاباتُ خيالٍ غائمٍ كالأبدِولم يتبق من ذكراه إلا هاتان القصيدتان اللتان خلدتاها بعيدًا عن باقي ما قام بتأليفه من شعر على مدار مشوار حياته القصير... الكرنك، وقصة الأمس.

مشاركة :