يُعلَمنا السيد المسيح قائلاً: «السعادةُ فى العَطاء أعظمُ منها فى الأخذ»(أعمال الرسل20: 35). كلّنا يفتش عن السعادة، ولكنها فى متناول أيدينا، ولكننا لا نهتدى إليها، وما أكثر ما ننفق من مالٍ وجهدٍ لنحصل عليها، فى حين أنها لا تكلّف شيئاً، فتضيع السعادة من بين أيدينا، ونخسر ما أنفقنا للحصول عليها. يُحكى أن مُعلّمة فى إحدى المدارس كانت دائمة الفرح والابتسام، حتى أنها بمجرد تواجدها فى أى مكان تنشر حولها جواً مليئاً بالسعادة والفرح. لذلك عزم شخصان على زيارتها لمعرفة سر سعادتها الدائمة، وذهبا إلى المنزل وطرقا الباب، وبالرغم من سماعهما صوتاً من الداخل، لم تفتح لهما للتو، ثم قرعا مرة أخرى وكادا يرجعان، ولكنها فتحت الباب ونظرت إليهما بوجهها المبتسم، ثم دعتهما للدخول ولكنهما لاحظا آثار الدموع فى عينيها، وأخبراها عن سبب مجيئهما طالبين منها إزاحة الستار عن سر سعادتها. فوضعت رأسها بين يديها وأخذت تبكى بحرقةٍ، ولم تستطع الكلام فى بادئ الأمر، وعندما هدأت قالت: «آه ! يا ليتنى أعرف حاله ومكانه! لقد تزوجت من فترة طويلة رجلاً خلوقاً، وكانت أحلامى أن أعيش معه حياة سعيدة، ولكنه أصيب بهزّة عصبية نتيجة حادث، ومنذ ذلك الحين، خرج ولم يعد، ورغم مرور بضع سنوات على هذه الحادثة لم أعثر عليه، ولا أعلم هل هو حى أم ميت، سعيد أم يرقد فى أحد المستشفيات للأمراض النفسية! لقد أغرقنى هذا الحادث فى الحزن وأدركتً أن بكائى يزيدنى حزناً فقط، فطلبتُ من الله أن يعطينى نعمة الابتسام دوماً تخفيفاً لآلامى، فعند دخولى المنزل أصرف وقتاً فى البكاء والصلاة، ولكن عندما أخرج للعمل لا أحمل سوى الابتسامة للجميع. وقد ساعدنى الله فى هذا حتى أصبحت مبتسمة دائماً لأسعد الآخرين». فالسعادة ليست من معطيات المادة كالمال والجمال والشهرة، بل هى حالة القلب النقى، والنفس الراضية القنوعة والضمير الصالح. لقد خلق الله الإنسان ليحيا فى السعادة، فمنذ أن خلقه وضعه فى جنّة عدن، ثم وعده بفردوس السماء إن أطاع أوامره وخضع لأحكامه ووصاياه، ومع ذلك حاد الإنسان وضلَّ عن الطريق المؤدى إلى السعادة، حتى أنه جلب لنفسه الشقاء والحزن. إن سعادة الإنسان الحقّة فى الله وحده، فإذا فتش عنها بعيداً عنه، فيكون كمن يحاول أن يمسك ظله، ولا يستطيع أبداً. كم من الأشخاص الذين يقعون فى ضلالٍ وفشل ذريع عندما يعتقدون أن السعادة هى فى الغنى أو المجد أو اللذات؟ فالمتعة الأرضية لا تولينا إلا سروراً للحظةٍ يعقبه الألم والشقاء، كما أن الشهرة والمجد لا سعادة فيهما بدون الله، وهذا ما اعترف به الإسكندر الأكبر عندما سأله أحد المقربين إليه: «أتكون الإسكندر، والعالم كله تحت سيطرتك، وتبكي؟!» أجابه قائلاً: «وكيف لا أبكى، والعالم بأسره لا يستطيع أن يسدّ فراغ قلبي؟!» مما لا شك فيه أن قلب الإنسان أكبر من أن يملأه العالم، لأن الله خلقه ليملأه هو، لا شيء سواه من المخلوقات. فلا الغنى، ولا الشهرة، ولا المجد، ولا شيء آخر يستطيع أن يسد فراغ قلبنا ويملأه بالسعادة. إذاً لن نجد سعادتنا الحقّة إلا فى الله وحده، كما أننا نستطيع الحصول عليها، عندما نبذرها فى قلوب ونفوس الآخرين. نستطيع اكتشاف السعادة فى المحيط الذى نعيش فيه، عندما يقوم كل شخصٍ منّا بواجبه نحو الآخرين ويُعطى بلا مقابل، نبدأ بهذا فى المحيط العائلى ثم نوفرها فى المجتمع الذى نعمل فيه. وكما يقول المهاتما غاندي: «تتوقف السعادة على ما تستطيع إعطاءه، لا الحصول عليه». إذاً لنسعى إلى نشر السعادة بين أكبر عدد من الناس، وأن نضاعف أيامهم الضاحكة، ونقلل لياليهم الباكية والحزينة. ما أسهل وأرخص الحصول على السعادة! ومع ذلك ندفع مبالغ طائلة لكى نزيّفها، فلا المال يشتريها، ولا الشهوة توصل إليها، ولا الرفاهية توّفرها، ولا المجد يمنحنا إياها. إنها أبسط من كل هذه، وأرخص من أن نكبّد أنفسنا فى سبيلها كل هذه النفقات: إذاً تبدأ سعادة الإنسان على الأرض، حالما يبدأ يلتهب فى قلبه حُب الله وحُب الإنسان. لذلك يجب علينا أن نتبع هذا الطريق المختصر للحصول عليها. كما أن أعظم أسرار السعادة هو أن يكون الإنسان على وفاق مع ذاته ومع الآخرين. ونختم بكلمات القديس أغسطينوس الفيلسوف العظيم: «خلقت قلبنا لك يا الله، ولن يذوق طعم السعادة حتى يجدك ويستقرّ فيك».
مشاركة :