يعلّمنا القديس بولس الرسول قائلاً: «فاذكُروا أَنَّه مَنْ زَرَعَ قليلاً حَصَدَ قليلاً، ومَنْ زَرَعَ كثيراً حَصَدَ كثيراً، فلْيُعْطِ كُلُّ امرِئٍ ما نَوى فى قلبه، لا آسِفاً ولا مُكْرَهاً. إن الله يُحبُّ مَنْ أعطى مُتهلِّلاً» (٢كورنثوس ٩: ٦-٨). لماذا نبخل بعطايا الله على الآخرين؟ نجد الفرق بين الإنسان السخى والشخص البخيل فى هذا المثل الموجود بالطبيعة: يمتد نهر الأردن من الشمال إلى الجنوب ويصل بين منبعين كبيرين هما بحيرة طبرية والبحر الميت. فمياه البحيرة عذبة وتشتهر بالأسماك الجميلة، وتنمو الأشجار والنباتات على شواطئها، لكن مياه البحر الميت على النقيض تماماً، فنجدها شديدة الملوحة وبلا حياة، حتى أنها تقضى على كل كائنٍ حى يعيش فيها. لماذا هذه الفروق الشاسعة بينهما بالرغم من أن كليهما يقعان على نهر الأردن نفسه؟ نستطيع أن نكتشف السر بكل بساطة، لأن مياه بحيرة طبرية متجددة دائماً، تصبّ فيها المياه، ثم تعود وتخرج منها مرة ثانية؛ بينما البحر الميت ليس له مخرج، فنهر الأردن ينتهى به، لذا نجد مياهه راكدة وشديدة الملوحة. نستطيع اكتشاف هذا المثال فى البشر، فالغالبية العظمى تريد أن تأخذ فقط دون أن تعطى. لقد منحهم الله نعماً كثيرة من غنى وصحة وبركات ومواهب، لكنهم يحتفظون بها لأنفسهم فقط، يأخذون ويطلبون دون التفكير فى غيرهم مثل البحر الميت الذى لا مخرج لمياهه، يغلقون على النِعَم والعطايا التى منحهم إياها الله، دون أى رغبة فى مشاركة الغير فيها. بينما الإنسان الذى يقوم بواجبه، ويفتح قلبه وذراعيه من أجل الآخرين، ويقدّم لهم ما بذله من جهدٍ وما جناه من ثمار؛ سيشعر بالسعادة طوال حياته، كما أنه يضمن رضا الله عنه فى كل حين. فالسعادة الحقيقية ليست فى بلوغ الإنسان رغباته وتحقيق أمنياته أو الحصول على ما يريده؛ بل فى تتميم واجباته وفرط سخائه مع الآخرين. مما لا شك فيه أن متطلبات الإنسان لا تنتهى ولا تُشبَع، ومهما يركض وراءها لن يصل إلى كل ما يطمح إليه، بينما الواجب والعطاء والاهتمام باحتياجات الآخرين، تمنحه رضا الضمير ونشوة الراحة بعد الجهد وفقدان بعضاً مما يمتلك. لماذا نهمل الثروة الدفينة فى أنفسنا لنستعطى السعادة من الخارج بطرقٍ لا جدوى منها؟ لكن إذا بحثنا عنها واستثمرنا مواهبنا وقدراتنا وكل ما نملكه من أجل الغير وليس لأنفسنا فقط، سنحصل على أوقات السعادة والنعم والراحة النفسية طوال حياتنا، لأنها تهيئ لنا المستقبل السعيد الذى يعود بالخير على عائلتنا ومجتمعنا وبلادنا. ما أكثر الذين خسروا فرصاً لا حصر لها كانت مهيأة للحصول على السعادة وراحة البال، إذا كانوا قدّموا شيئاً من أجل الآخرين! فالإنسان الذى يفقد اللحظة المتاحة أمامه لعمل ما هو نافع، لن يستطيع تعويضها أو إرجاعها. نستطيع بالقليل مساعدة الغير ونزرع فيه البهجة والسعادة. هناك حقول النفوس والقلوب التى بحاجة إلى زرعها، فلنزرع الإيمان فى قلوب الضعفاء والخائفين، لنسندهم ونشجعّهم! لنزرع حبنا لله والآخرين، لأن الحُب ينبوع الخير، والخير فيض البركة، وفى البركة اكتمال السعادة للجميع. لنزرع الحياة، أى أحسن ما فينا، لنزرع أفكارنا وأسمى مبادئنا، وأحلى آمالنا، وأنبل ما نطمح إليه! وكما يقول المثل الإنجليزي: «مَنْ لا يريد حين يقدر، لا يستطيع عندما يريد». كما نسعى لنكون كالملح الذى يحفظ الطعام من الفساد، ويمنحه مذاقاً خاصاً، لنقضى على عوامل الفساد فى المجتمع، ونعيد الإيمان إلى النفوس التى يعذّبها الشك، ونزرع الرجاء فى كل نفسٍ بائسة نتقابل معها فى أى مكان، كما نزرع السعادة فى القلوب الحزينة. وما أكثر النفوس المقفرة على طريق الحياة! نفوس استبدّ بها اليأس ، وأصابها الخور وأظلمت الحياة فى عينيها، فواجبٌ علينا أن نبذر فيها الأمل والتفاؤل والمرح، نستطيع أن ننثر بذور التسامح والصفح فى القلوب التى تعفّنت بالأحقاد والكراهية، وبذور المحبة فى النفوس التى تلدغها الغيرة والحسد، وبذور الرجولة والنخوة والاعتماد على الذات، بدل الاتكالية وروح التذمّر والتشكّى. إذاً فالعطاء ليس مقتصراً على الأشياء المادية فقط، لأنه يوجد عطاء أهم بكثير ولا غنى عنه. فعندما نعطى الآخرين، نزداد بركة من الله الذى أعطانا من نعمه وعطاياه، كما نتذوق بواكير عطاءنا قبل الأوان، إذ يكفينا ما نشعر به أحياناً من رضا وسعادة، لا لشيء إلا لأننا قمنا بمساعدة الآخرين. ونختم بقول الشاعر: «هيا احصدوا وانشدوا! الحبّ قلبٌ ويدٌ! والعمر زرع وجنى!».
مشاركة :