عندما يعيد الراوي استعادة المدينة في روايته فإنه يأخذها إلى الحافة، إلى الطرف القلق الذي يسبق المنحدر، عندها تنظر المدينة إلى الهاوية ويرتعد قلبها وترتد ناقمة غضبى على الذي اقلق تواترها وهدوءها ومواقعها القديمة، المدينة المنجم.. أو المدينة الكنز.. أو مدينة متوارية خلف غموض كثبانها، لا تمنح مفاتيحها إلا للذين كابدوا صباباتها، واكتووا بدلّ صدها. لابد للحكّاء من مدينة يخاتلها ويعابثها ويستل من شجرها خيوط الحكاية. هل تتشابه المدن..ام أنها جميعها لا تخلو من شبهة اقتراف القصص والسباحين والحكايات، التي تعيد صياغة الواقع وفق قانونها الخاص.. وتعيد تشكيل العلاقات في بنائها الداخلي وفق شرطها الوجودي؟ الرياض. المدينة التي تعجز عن أن تكون ودودة مع الغرباء، وتعجز عن أن تطور مهاراتها الاجتماعية مع الآخر، والرياض.. هي النجدية الخجول التي لن تزيل برقعها إلا بحضرة من ألفت وأمنت. لكن عندما يغادر الجميع، ستشهق وتفز من صمتها.. وتمطر حكايات وشهبا وسواقي وعسلا عريق مختبئا في جرار العرب العاربة. * * عندما أكتب الكلمات تتبدى لي وفق صورة عجيبة حيث كان لكل كلمة لون وحجم وملمس ورائحة، كنت أجد كل كلمة مكتنزة بحمولة تغلي وتفور، عندما نعابثها أو نخاتلها سرعان ما تنفجر بين أيدينا تلك المادة العجيبة التي تختزنها الكلمة فتتلون الورقة، وتعمق متقولبة بأبعاد ثلاثة، كنت أقطف الكلمات التي تسبح في فضاء البيت من حولي وأرصها متجاورة على الورق، وقتها لم أكن أعرف بأن هذا العبث سيفضي بي إلى ضفاف نهر الشعر. * * الرواية هي الصيغة الأكثر نضجاً في مسيرة الإبداع، والشكل الأكثر تعقيدا وتركيبا للفنون كلها، فهي تختزل الشعر جموحه وعوالمه المتوهجة، وتدرج المسرح حواره وفلسفته وبعده الدرامي، أيضا الرواية تتوسل الفنون الحديثة من خلال السيناريو والتقطيع والاتكاء على الحوار للمعالجة الفنية. الرواية تكتنز داخلها كل الأشكال الإبداعية، لذا يبدو الشكل الأكثر اقترابا من الحياة، ومن خلالها يتم رصد الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية والتاريخية للشعوب، الرواية باتت.. ديوان العصر الحديث. * * المأزق الأخطر الذي من الممكن أن يترصد الرواية هو أن نتركها عند الكتابة لهباء التلقائية وتداعيات الصدف خالية الوفاض من الحرفية والصنعة، خاضعة للمزاج، مشتته التفاصيل، وعندما أقول هنا حرفية وصنعة أشير إلى الحذاقة الفنية المستترة عن أعين القارئ الذكي، ومن هنا لابد من محور ارتكاز، يلتقط يد القارئ برفق ومن ثم يبحر به. الرواية هي أرض مارد أضاع قمقمه، وإن فرح في البداية ببهجة الحرية والآفاق المنداحة والأضواء الكاشفة، لكنه حتما سيعي في مرحلة ما التكاليف الباهظة للحرية، وسيصبو أن ينكفئ هادئا داخل الظلال الهادئة الأولى لقمقمه، لأنه سيكتشف في لحظة ما بأن الحرية باتت تقتات من نفسه وجلده وروحه والسيرة الذاتية لمرابع طفولته. * * الرواية هي محاولة استرجاع المادة الأولى للعالم، تفتيت المشهد إلى جزيئاته الصغرى، ومن ثم رصفها من جديد وفق شروط مستجيبة لمشيئة تتحدى العدم. (مقاطع من محاضرة قدمتها حول تجربتي الروائية في الأحدية النسائية بالرياض، في يوم الأحد 13-9-2015) لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :