إيران بلاد شديدة الكبرياء، والإيراني من أكثر الناس اعتزازاً بثقافته وطعامه وموسيقاه وكل تراثه، لكن أكثر ما يدفع الإيراني إلى الكآبة حسب بروفسور إيراني زائر التقيته عام 2003 في جامعة نورث كارولاينا هو محاصرته بالأعداء من كل جانب على الكرة الأرضية، فهناك رغبة شعبية عارمة بالهروب من «الغيتو» الذهني الذي فرضته الثورة الإيرانية على الإيرانيين منذ تولت السلطة عام 1979. وحتى ثورة الحجاب التي وجدت صوراً متمردة لها في الحراكات الإيرانية الأخيرة، لا تجعلنا نغفل أن المرأة الإيرانية لها حرية غير التي يصورها الإعلام المعتم للسلطة في طهران، رغم كل محاولات القمع الدينية التي يمارسها النظام، والتي يسعى فيها إلى حشر وتعليب الروح الفارسية بتاريخ عمره آلاف السنين في علبة الولي الفقيه التي تأسست على خلاف سياسي قرشي عربي- عربي (هاشمي- أموي) من خارج الثقافة الفارسية أصلاً. بعد الثورة عام 1979، اعتقدت الصفوة الدينية الحاكمة دوماً أن حدود إيران هي إرث إمبراطوريتها الفارسية القديمة، ولأن الأيديولوجيا السياسية في أدبيات الإسلام السياسي هي أممية لا تعترف بالحدود، فإن الثورة «الإسلامية» ثورة واجبة التصدير حسب الرؤية «الثورية» لطهران. هذا الاعتقاد المزدوج والمفصوم مقسوماً على ذهنيتين (فارسية وإسلامية)، اصطدم بجدار الواقع الصلب، وبصمود النظام الإقليمي نفسه حول إيران، خصوصاً في الحرب الدموية الطويلة مع عراق صدام حسين في الثمانينيات، مما أدى بالصفوة ذاتها إلى مراجعة حسابات قوتها، فبقي الخطاب السياسي الثوري أممياً يتجاوز الحدود والجغرافيا، لكن السياسة بأدواتها الدبلوماسية تراجعت إلى براغماتية مؤذية للغير، قابلة للتوسع ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. في عام 1997، كانت السلطة في إيران قد انقسمت بحضور انتخابي هائل لمحمد خاتمي، وقد تنصب رئيساً في انتخابات تقول الأرقام الرسمية نفسها إن نسبة التصويت فيها بلغت 80%، وهي أعلى نسبة تصويت عام شهدتها إيران منذ الثورة، وكانت صرخة مدوية مطالبة بالإصلاح من خلال خاتمي، الذي تزعم تياراً (من داخل نظام الولي الفقيه نفسه) يطالب بحوار الحضارات، مقابل التيار الثوري التقليدي المؤمن جداً بصراع الحضارات. لقد كان لقب خاتمي الشعبي (آية الله جورباتشوف) في إسقاط مباشر على «بيروسترويكا» آخر رئيس سوفييتي، لكن «البيروسترويكا» (ومعناها إعادة البناء) كانت في إيران حلقة من مسلسل جذب وشد بين تيارات الحكم الديني، ولم تكن هناك حلقة أخيرة تفككت فيها دولة الثورة. وبعد انتخابات متوالية كان المواطن الإيراني يدرك فيها أن صوته الانتخابي يُحدث الفرق المحدود فقط ضمن صندوق ممتلئ بآيات الله المختلفين، كان حضور روحاني الأخير على سدة الرئاسة (ندا لتشدد تيار خامنئي وهو المرشد الأعلى)، ليشكل المعسكر البراغماتي المحافظ امتداداً لسياسة سلفه رفسنجاني، في المزج بين الشدة والمرونة واللعب على حبال العلاقات الدولية لتحقيق الحد الأدنى من التوازنات غير الممكنة، مع التأثير في الجغرافيا السياسية المحيطة بالإقليم. باختصار وبساطة: لقد كان وصف الراحل الكبير محمد حسنين هيكل لثورة الخميني في إيران بالغ الدقة والإبداع في جملة واحدة، حين قال إنها (رصاصة انطلقت من القرن السابع لتستقر في قلب القرن العشرين). السؤال اليوم: من سيخرج الرصاصة من قلب القرن الواحد والعشرين؟ * كاتب أردني مقيم في بلجيكا.
مشاركة :