الهجوم الإخواني على زيارة الرئيس قيس سعيد إلى طرابلس لم يكن مباغتا، فمنذ أكثر من عام وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ينافس على صلاحيات رئيس الدولة، حيث شكّل مؤسسة تحمل اسم رئاسة مجلس النواب، تتخذ المواقف وتصدر البيانات بمعزل عن الجلسة العامّة، ولعل النقطة التي أفاضت الكأس كانت تتعلق بليبيا عندما اتصل الغنوشي في 19 مايو 2020 برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق آنذاك فايز السراج مهنئا إياه باستعادة ميليشياته قاعدة الوطية بدعم من القوات التركية وجحافل المرتزقة. كانت تهنئة الغنوشي ذات بعدين، الأول يتعلق باعتقاده أن انسحاب قوات الجيش الوطني من قاعدة إستراتيجية متاخمة للحدود المشتركة بين البلدين إنما هو انتصار لحلفائه في طرابلس، وتكريس للحضور التركي في غرب ليبيا، وهزيمة للمحور الإقليمي المعادي لقوى الإسلام السياسي بالمنطقة وخاصة مصر والإمارات، والمحور الدولي الداعم للمشير حفتر وعلى رأسه روسيا ولاسيما فرنسا التي يكنّ لها إسلاميو تونس عداء تاريخيا وثقافيا متأصلا. والثاني يتصل برسالة إلى قيس سعيد، ويمكن استنتاجه من تدوينة لصهر الغنوشي ورئيس مكتب العلاقات الخارجية بحركة النهضة رفيق عبدالسلام كشف فيها عن طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته لتونس أواخر ديسمبر 2019 من رئيسها دعم تدخله في ليبيا لمساندة حكومة الوفاق، وهو ما رفضه سعيّد رفضا قاطعا، زاد من تدهور علاقته بإخوان بلاده. لم تتأخر حركة النهضة التونسية عن تقديم الدعم والمشورة لإخوان ليبيا، ومن يتابع خطاب حزب العدالة والبناء الليبي يدرك أنه متأثر بالتجربة الإخوانية في تونس، وأنه يسعى بكل قوته إلى توريط بلاده في دستور صادر عن نفس القوى التي ساهمت في تحبير مسودة الدستور التونسي للعام 2014، وينهل من نفس ينابيع التوجيه الغربي وخاصة الأميركي والبريطاني، وبذات البراغماتية في التعامل مع مشروع التمكين، وفي السعي إلى تشتيت المنافسين السياسيين، وفي التغطية على ضعف الحضور الشعبي بالتغلغل في مفاصل الدولة من خلال الصفين الثاني والثالث للسلطة القائمة. ورهان إخوان تونس على إخوان ليبيا مرتبط بأهداف عدة؛ في 21 أكتوبر 2011 وبعد يوم واحد من مقتل القذافي دعا القيادي الروحي للجماعة يوسف القرضاوي، الذي قال الغنوشي إن الربيع العربي خرج من جلبابه، إلى قيام اتحاد إسلامي بين مصر وتونس وليبيا، وفي 2013 تمت الإطاحة بحكم المرشد في مصر، وبقيت دولتان تحت سيطرة افتراضية للإسلام السياسي هما تونس وليبيا، في صيف 2014 رد إخوان ليبيا بدعم إقليمي على فشلهم في الانتخابات البرلمانية بالانقلاب عليها من خلال منظومة فجر ليبيا، ما أدى إلى انقسام البلاد، والدخول في صراعات سياسية وعسكرية واجتماعية، ليس بين شرق وغرب كما يعتقد الكثيرون، ولكن بين مفهوم الدولة ومنظومة الحكم الميليشياوي، وبين المدافعين عن الدولة المدنية والطامحين إلى تكريس الدولة الدينية، وبين العمق الاجتماعي الليبي ومن يتحركون بشعارات جهوية مرتبطة أساسا بمصالح جماعات وأفراد في السيطرة على السلطة والثروة. كان الهدف السياسي أول عناوين رهان الإخوان في تونس على إخوان ليبيا، فانتصار الإسلام السياسي في الدولة الجارة يعني دعما كبيرا لحركة النهضة وحلفائها العقائديين ممن يخشون البقاء منفردين في شمال أفريقيا، في ظل قوة النظام الملكي في المغرب، وتقزيم دور الإسلاميين من قبل نظام الجنرالات في الجزائر، وانهيار منظومة الجماعة في مصر، والإطاحة بحكم الإخوان في السودان، وكذلك في ظل الرفض التونسي المتنامي لمشروع أخونة المجتمع وطمس معالم الدولة الوطنية. ويحاول إخوان تونس التغطية على طبيعة فشلهم سياسيا بالتركيز على الأزمة الاقتصادية التي يرى الغنوشي أنه حلها بتدشين خطة لإحياء المغرب العربي تشمل تونس وليبيا والجزائر، ويضيف أن حل نصف مشاكل تونس يكون من ليبيا، طبعا من خلال التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري وفتح ورشات البناء داخل التراب الليبي أمام اليد العاملة التونسية، وقد فسّر رؤيته في مقابلة صحافية في يناير الماضي عندما قال إن “انفراج الوضع في ليبيا سيوفر فرصة مهمة جدا للشراكة الاقتصادية الثلاثية التونسية – القطرية – الليبية للاستثمار في السلم وإعادة البناء في دولة ليبيا”، وهو ما يعني أن إخوان تونس يراهنون على إنعاش اقتصاد بلادهم من خلال ليبيا، ولكن من خلال شراكة مع قطر ذات القدرات المالية، وتركيا ذات التعاقدات الأصلية عبر شركاتها الكبرى، على أن تكتفي تونس بتصدير العمالة. في الخامس من فبراير الماضي تم من جنيف انتخاب السلطات التنفيذية الكبرى في ليبيا، وكان الفوز لقائمة عقيلة صالح وفتحي باشاغا التي كان يقف وراءها حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه، ثم بدأت تظهر معالم الانفراج في الداخل الليبي بتعاون إقليمي ودولي وتوافق واضح شاركت فيه جميع الأطراف بما في ذلك قيادة الجيش التي يعاديها الإخوان استعدادا لمصالحة وطنية ولتنظيم انتخابات سيكون المشير حفتر من المترشحين لاستحقاقها الرئاسي. وضع إخوان تونس كل رهاناتهم على إخوان ليبيا، وبالمقابل لم يبد الرئيس سعيد منذ توليه الحكم في أكتوبر 2019 أي تحالف مع أي طرف ليبي، ولكنه كان مع شرعية تنطلق من الداخل، وهو ما يسعى إليه الليبيون باختلاف مشاربهم، وعندما كان سعيد أول من يزور طرابلس بعد تنصيب سلطاتها الجديدة، كان هدفه التذكير بأن التعاون مع الشقيقة الجارة يكون من خلال سلطاتها التوافقية الجديدة وليس من خلال جماعة الإخوان، أو عبر مركز ثانوي من وراء الدور القطري والتركي، وأن الخيارات والمصالح الإستراتيجية بين الدول لا يمكن رهنها للأمزجة الشخصية أو الحسابات الحزبية والعقائدية، وهو ما أثار حفيظة جماعة الإخوان في البلدين، وخاصة في تونس، حيث تعرض الرئيس إلى حملة تشكيك في دوره ونواياه ومواقفه، وذكّره منتقدوه بأنه لم يقف إلى جانب ميليشيات السراج ولم يدعم التدخل التركي، رغم أن ذلك الموقف يحسب له لا عليه، فما يحدث اليوم ليس خيار السراج ولا تركيا، وإنما هو نتاج لتوازن قوى فرضته إرادة أممية، والأهم ما سينتج عنه بعد 24 ديسمبر القادم. يبقى أن على سعيّد أن يدرك أن ملف العلاقات مع ليبيا يبقى من مشمولات صلاحياته الدستورية كرئيس للدولة، لكن الجوانب الفنية والتقنية والمتابعة العملية لاتفاقيات التعاون ستكون من صلاحيات الحكومة، لاسيما أن اجتماع اللجنة العليا المشتركة المقرر عقده قريبا سيكون تحت إشراف رئيسي الحكومتين، وهذا ما يفرض تناغما بين رأسي السلطة التنفيذية في تونس، وإعادة جسور التواصل بينهما لما فيه مصلحة البلاد والعباد.
مشاركة :