في موتها كما في حياتها.. مثيرة للجدل، لكن لا ضير في ذلك، فقد كانت مؤمنة بأن «الجدل قيمة»، فلا ضير وقد كان يملأ حياتها، أن يشتد بعد موتها، فحول هذه «القيمة» تتمحور القضايا والآراء التي أثارتها على مدى جل الفترة التي عاشتها، والتي تبلغ التسعة عقود، مجابهة فيها الواقع المعطوب كما رأته بشتى تجلياته، لترتحل دون أن يرتحل الجدل الذي أثرته في حلها وترحلها.. فالأديبة، والناشطة النسوية، والطبيبة نوال السعداوي، لطالما خلفت خلفها عواصف من ردود الفعل المؤيدة والمعارضة، في تصريحاتها الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية، وحتى الاقتصادية، لتكون بحق عنصرا فاعلا، ومؤثرا، أوافقها أو عارضها الآخرون.استطاعت نوال، التي ارتحلت عن عالمنا يوم الأحد (21 مارس)، أن تخلق لها قاعدة جماهيرية من المؤيدين والمتأثرين، وبالمثل كانت هناك قاعدة من الرافضين والناقمين، فكثيرون يتفقون معها، وكثيرون يختلفون، ويراها البعض من منطقة وسطى، بين تأييد لبعض آرائها واختلاف مع آخر في نقاط حرية الفكر، وقابلية النقاش. لهذا، فإن نوال إشكالية دائما، وها هو موتها يجلي مقدار الإشكالية، التي تركزت لدى البعض في جواز أو عدم جواز الترحم عليها، والتي استجاب لها آخرون بالتسابق في إصدار الفتاوى الطرية، بطراوة الحدث المتمثل في موتها!من ريف الشقاء إلى عالمية المجابهةأديبة، ومفكرة، وناشطة نسوية، عجوز شمطاء، دجالة ومدلسة... تلك تعريفات تعرف بها نوال من قبل المؤيدين في جانب، والمعارضين على الجانب الآخر، لتكشف حدية الموقف منها، إلا أن هذه الطبيبة، المنحدرة من ريف مصري بسيط، في (محافظة الدقهلية)، استطاعت أن تتجاوز المحلية، إلى العالمية، لتكون مجابهتها مجابهة عالمية، لا تقتصر على نظام ديني أو سياسي أو عقدي، أو اجتماعي.. إنما هي مجابهة للأعراف الذكورية في نطاقها العالمي، والتي تمارس سطوتها وسلطتها على النساء، في مختلف الأمكنة.ولدت نوال في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ودرست الطب، بيد أنها عاشت صراعا بين ميولها للطب، كعلم تجريبي، وميولها للأدب كاشتغال متعلق بالدراسات الإنسانية، بيد أنها استطاعت أن تولف بين هذين المجالين، على مدى اشتغالها، ليجيء ثمار هذا التوليف عشرات الأعمال الأدبية، روائية، ومسرحية، وسيرة ذاتية، وكتابات فكرية، وبحوث ودراسات، تجاوزت فيها التابوهات، من سياسة، ودين، وجنس، لتجر عليها تلك التجاوزات، ويلات جابهتها، بكل قوتها، حتى مماتها.عن تلك المسيرة الحافلة، كتبت نوال العديد من الأعمال التي توثق لسيرتها ومسيرتها، فكانت ثلاثيتها «أوراقي.. حياتي». وعن تفاصيل ارتحالاتها المكانية، ومضامين هذه الارتحالات في السياق الفكري، والسياسي، والاجتماعي، كتبت «رحلاتي في العالم». أما في «امرأة تحدق في الشمس»، فكتبت تجلي مواقفها من مختلف القضايا الدينية، والمجتمعية، والاقتصادية، والسياسية، وعن الذكورية، والمرأة، والرجل، وعن الأدب، والإبداع، والحرية، والذاكرة، والذكريات.فيما تجلي مؤلفاتها الأخرى، أراءها، كما هي في «الوجه العاري للمرأة العربية»، و«معركة جديدة في قضية المرأة»، و«توأم السلطة والجنس»، وكتابها «المرأة والجنس»، والكتاب الآخر «الرجل والجنس»، إلى جانب كتبها «الأنثى هي الأصل»، و«المرأة والصراع النفسي»، و«المرأة والغربة»، وغيرها من العناوين، التي أفرغت فيها نوال أفكارها، وصاغتها بلغة أدبية سلسة.وقد ترجمت كتبها للعديد من اللغات العالمية، ورشحت لنيل جائزة نوبل عددا من المرات، وتمثلت مركزية اشتغالها، في النضال ضد الهيمنة الذكورية، أكان الممثل لها ذكرا أو امرأة، مجتمعا أو دينا أو نظام سياسي، فحيث كانت الهيمنة الذكورية، تجابه نوال.في صراعها مع المنظومة الذكوريةفي كتاباتها، وكتبها، ولقاءاتها، تحفر نوال عميقا لتكشف عن الجذور، لتفكك التقاطعات التي تشكل في مجملها منظومة معطوبة تسود العالم في أنظمته ومنهجيته، ترتكز على مركزية ذكورية، انتقدتها لدى المرأة بالقدر الذي انتقدتها لدى الرجل، ولأنها مركزية متداخلة في كل مناحي الحياة، كتبت منتقدة السياسية تقول: «إن الحياة العامة الفاسدة أو السياسة الفاسدة هي التي تجرد المرأة أو الرجل من الجمال أو الرقة أو الإنسانية، وتحولها إلى حيوانات سياسية لا تؤمن إلا بالمصالح والمطامع ويتسم سلوكهما الخاص والعام بالازدواجية والتناقض».فيما ذكرت بأنها وفي صلب صراعها مع المنظومة الذكورية، التي تمجد الذكر بيولوجيا، لا تميل إلى تمجيد المرأة أو تحقيرها لأسباب بيولوجية، فـ «المرأة ليست ملاكا طاهرا وليست شيطانا ماكرا أو لغزا غامضا، المرأة إنسانة كاملة الأهلية مثل الرجل، ويحق لها أن تكون مسؤولة عن حريتها بمثل ما يكون الرجل مسؤولا عن حريته، سواء في حياته الزوجية الخاصة أو في حياته السياسية والعلاقات الدولية، ولا بد أن ينص الدستور في أي دولة على هذه المسؤولية الأخلاقية والسياسية في آن واحد».كانت ترى في تحرير المرأة قضية جوهرية، فتحرير النساء لا ينفصل بالنسبة إليها عن تحرير الأوطان، «لأنهن نصف هذا الوطن، ولا يمكن تحرير الوطن دون تحرير النساء». كما أنها دافعت عن رؤى شمالية لمفهوم التحرر، فـ «الدفاع عن حقوق الشعب لا يعني إغفال حقوق النسوة أو النساء أو تجاهل مشاكلهن الخاصة المحلة داخل البيت وخارجه، فالحياة الخاصة للإنسان (امرأة أو رجل) لا تنفصل عن الحياة العامة لكل منهما، والمرأة العاجزة عن الدفاع عن كرامتها وحريتها لا تستطيع أن تدافع عن كرامة الوطن وحريته»، فالمرأة التي تملك كرامتها وحريتها واستقلالها «أقدر على الدفاع عن الحرية والاستقلال والكرامة من المرأة المسلوبة الحرية والاستقلال والكرامة».لهذا رفضت الاجتزاء، والميل لحرية في مقابل ترك أخرى، كما رفضت أن ينادى بتحرر دون آخر، حيث اقترنت حرية المرأة بحرية المجتمع بكل فئاته، تقول حول ذلك: «إن النساء وحدهن لا يمكن أن ينلن الحرية والمساواة في مجتمع لا يحقق الحرية والمساواة لجميع فئاته المختلفة». وبذلك كانت ترى في قضية تحرير المرأة قضية جوهرية على الصعيد المجتمعي والحياتي، «لأنها لا تمس حياة نصف المجتمع وحسب، ولكنها تمس حياة المجمع كله»، فبتخلف المرأة، وتكبيلها «لا يؤخر النساء فحسب، ولكنه ينعكس على الرجل وعلى الأطفال، وبالتالي يقود إلى تخلف المجتمع كله». وعلى العكس، فإن تحرير المرأة إطلاق لإمكاناتها الفكرية من أجل ثراء المجتمع، وثراء حياة شخصية النساء، من أجل العمل الخلاق.امتنان / شتيمةلم يكن موت نوال، موتا عابرا، بل موتا أثار ضجيجا، لدى المحبين والكارهين، فعبر التغريدات، والتداولات على وسائل التواصل، عبر المحبون، والمقدرون عن امتنانهم لنوال لما قدمته من إبداع أدبي، واشتغال فكري، ونشاط اجتماعي في محاربة الذكورية، ومختلف أشكال الممارسات التي تسيء للمرأة، ولحرية المجتمع، وللإنسانية، ولعظيم جهدها في نشر الوعي. فيما تداول الكارهون، مقاطع رأوا فيها إساءة للدين، والكتب السماوية، متعذرين بها لشتمها، وتوصيفها بأشنع الأوصاف.بيد أن نوال التي يكرهها الكثيرون، استطاعت بفكرها إحداث تغيير لدى الكثيرين كذلك، تقول الروائية والناشطة النسوية البحرينية ليلى المطوع، ساردة أولى لحظات تعرفها على كتب السعداوي: «كنت أرتجف خوفا، في أول قراءة لنوال، لشدة ما حذروني من الاقتراب من كتبها»، إلا أن هذا الاقتراب من عوالم نوال، غير حياة المطوع، كما غير حياة الكثيرات، «كانت هي المرأة التي نحتاجها كنساء، المرأة الحامية لنا جميعا، التي ضحت، ونبذت، وكسرت الأوثان المتوارثة، وحطمت قيود العقل، ووقفت ضد من سلب كرامة الإنسان وحقه في الحياة، فقد آمنت بأن المجتمعات المتحضرة تحتاج إلى طرفين لتنهض، وأننا نعيش مجتمعا شل نصفه، فصار يعرج دون أن يقوى على إكمال الطريق».وتلفت المطوع بأن «اقتصاد البلدان قائم على التعاون بين الرجل والمرأة، وما يحدث من إلغاء للآخر، حولنا لمجتمعات مشوهة»، لهذا تعرب المطوع عن امتنانها لما قدمته نوال من دور كبير، في كشف ما تتعرض له النساء، وترى بأن السعداوي «ولدت في زمن لم يقدرها، ولم يحترم عقلها وفكرها، وقد بدأت آثار كفاحها في الظهور على السطح، وما كانت تدافع لأجله صار واقعا تعيشه الأجيال».
مشاركة :