تتميز ألوان لوحته بين الألوان الكثيرة، فكأن اللون خاص به، يستعمله كما لو انه الاستعمال الاول. انها ألوان الفنان التشكيلي اللبناني الراحل (توفى في نهاية 2013) فؤاد جوهر الذي رسم حركة الزمن واشياء الطبيعة وخصوصية الانسان، وكانت الألوان اللغة الهادئة والهادرة التي ثبت عبرها هذه الخصائص وفق نظرة لامست جوهر المعنى من اللمسة الاولى. في لوحاته وألوانه ، رسم جوهر مزيدا من اصول المعنى وتوّجه باضاءات اسعفت الجوهر نفسه وحوّلته حركة متوهجة. شرح الفنان تفاصيل المعنى اللوني الذي ينطلق منه الى الآخر والحياة، وثمة جلسات جمعتني بالراحل فسّر وشرح فيها الكثير من ركائز أعماله الابداعية: “لوحتي دائماً مفتوحة على توهج الحياة والطبيعة، ومن الطبيعي ان يتعاكس هذا التوهج ويتداخل مع التأثرات والتأثيرات الخارجية، وتالياً تنبثق الألوان من حركية هذا التوهج وحركية المعنى والتفاصيل المواكبة لهذا المعنى. اللون الذي يتحرك داخل لوحتي يسعى الى ترسيم حدود الاقامة للانسان داخل وطن المحبة والجمال. وتأتي الطبيعة كمدخل مهم لبناء المشهد وما يليه في المعنى، ولتكون منطلقاً بأبعاد كثيرة وواسعة. ولا تتوقف الصورة عند هذا الحد، إنما تتجه صوب تفاصيل كثيرة، ليس اقلها تفاصيل منطق العلاقة بين الاشياء والانسان، العلاقة بين الحركة والصمت، بين الصفاء والضجيج. وتصل ايضا الى حيث تكمن الرغبة والفكرة، حيث يمكن عبر هذا الالتقاء ان تتحرك الألوان وتصل الى حد الانفجار الذي ينتج منه مناخ المعنى وشكل الفكرة وصورة الحدث. بمعنى آخر، ألوان لوحتي هي ألوان الشكل الذي يساهم في كتابة معنى الحياة والانسان، لذلك اجدني دائماً أُنقّب عن مساحة جديدة في الواقع والخيال لترسيم هذا الامتحان وتحويله فرحا عارما، ومحبة مفتوحة. واللوحة هي كل هذه المحبة”. ويتوسع في الشرح والتفسير :”انا بطبعي متفائل، وأرى الحياة بعين الامل والمحبة، وكل مشهد في الحياة والطبيعة يحرّضني على اجتراح المشهد الأنيق. يمكن تتبع هذا الامل وهذه الاشراقات في اغلب اعمالي وألواني، نعم، الاشراقات تلازم لوحتي ولا يمكنني غير التفاؤل في زمن التشاؤم. لا يمكنني الخروج من ذاتي ابداً، وهذا الاصرار يجعلني اعيش داخل الاشراقة المستمرة، ولوحتي هي الجواب الدائم الذي يرفع لواء هذه الاشراقة”. وعن التكنولوجيا قال :”لا اعتقد ان التكنولوجيا تستطيع ان تأخذ دور الروح. اللوحة حين تظهر في تجلياتها وألوانها ومعانيها الكثيرة، انما تكون بمثابة الروح التي يمكن ملامستها جيداً وتحسسها كثيراً. اللوحة التي تحمل مشقة اللحظة وما تمثّل هذه المشقّة من تطلعات الحياة داخل النفس الانسانية، لا يمكن اي طارئ او اي جديد او اي اختراع ان يحلّ محلها. التكنولوجيا لها وظيفة، لا شك انها مهمة في حياة الانسان اليوم، لكنها لا تستطيع اخذ دور الفن وما يعنيه داخل الذات والروح والعقل والقلب. اعتقد ان اللوحة الفنية وألوانها هي جواب واضح عن سؤال الروح التي تحرك حياة الانسان، فهل يمكن ان تنتج التكنولوجيا هذا الاحساس؟ هل تستطيع التكنولوجيا توليد هذا الاحساس الذي هو كيمياء تولد فجأة من دون سابق انذار واحتمال؟” الى اي مدى يمكن ان تكون اللوحة مثل كتاب يمكن ان يقرأ فيه كل انواع البشر؟ –اللوحة تشبه الموسيقى، ربما تكون هي اللغة العالمية للبشر. لا يهم من رسم ومن عزف، المهم ان تلامس احاسيس اللون وأحاسيس الموسيقى النفس البشرية. استطاعت اللوحة مخاطبة الأذواق المختلفة والمتنوعة، كما الموسيقى، وما زالت على هذا المنوال، والشواهد كثيرة. يكفي ان ننظر الى الاعمال الخالدة التي ما زالت ماثلة في الاذهان، حتى نكتشف كم ان اللوحة وألوانها تشكل عصب الحضور الجمالي في الحياة. -هل ترسم في شكل دائم، كيف تتعامل مع لحظات الابداع التي تستدعيك او تستدعيها؟ –العين تخزّن وتملأ البصيرة، ودائماً تلك هي الحال معي. كيفما تحركت وأينما وجدت اجد نفسي في مهمة شاقة وجميلة، مهمة تدوين المشهد المتحرك او الثابت الذي تلامسه عيني وبصيرتي. لذلك اتواصل دائماً مع حركة الاحساس الذي يراودني في لحظات تكوين احياناً شبه مفاجئة، فأركن الى ذاتي جيداً، وأحدّق بكل نظري وبكل روحي وقلبي لألتقط كل هذه المشاعر والاحاسيس، وحين اجد نفسي في المكان المناسب، استلّ ريشتي وأقبض على المشهد وأدونه وفق نظرتي وتوقي الى ما هو قائم وثابت في تلك اللحظة الكاشفة. دائماً ارسم، ولا اجد مساحة زمنية قد تبعدني من العملية الابداعية. هل تعتبر انك على موعد لإنجاز لوحتك الخالدة؟ –اعتبر نفسي دائماً على موعد مع اللحظة التي تشدني اكثر الى مناخ اللحظات العارمة، وهي حتماً لحظات الابداع الجميلة. وكلما انجز عملاً اظن انه الاخير، ثم اعود الى مرحلة البحث عن الجديد، مرحلة البناء التي لا تنتهي. وهكذا تستمر الحال، تستمر الرحلة، ما ان اشعر بالوصول حتى ارى المساحة مفتوحة على مسافات لا تنتهي. لا اعتقد ان الفنان قادر على امتلاك اللحظة التي يمكنه عبرها تحديد توقيت البداية او النهاية. ما دامت الحياة مستمرة فان الفنان مستمر في بحثه وظنونه الابداعية. متى توقفت الظنون توقفت حركة الزمن عند الفنان. من هنا، يمكن القول ان الموعد دائم ومستمر مع اللحظة الفاصلة بين الابداع والابداع، ولا بوادر وصول الى الموعد، وتبقى لحظات الانتظار الامل الذي ينتج اجمل الابداعات والألوان.
مشاركة :