يمدح داود النبى الإنسان الذى يشفق على الآخرين قائلاً: «طوبى لمِنَ يَعتنى بالمِسكين، يُنَجّيه الربَّ فى يوم السوء» (مزمور 2:40). كان الكاهن Maisant وجهاً كريماً من وجوه البر والرحمة والبطولة، لم يقنعه أنه ضحّى بالعالم وبهرجته وأباطيله ليتقرّب من الله؛ بل أراد أن يعيش ويخدم فى أفقر البلدان، وبين الشعوب الأقل نصيباً من الحضارة، التى مازالت تعيش حياة بدائية، ولم تكن لها من المهارة والخبرة فى أن تتحكّم بعناصر الطبيعة لتعود عليها بالخير والرفاهية. فاختار هذا الكاهن بلاد بوليڤيا بأمريكا الجنوبية ميداناً لغيرته ومحبته، وعاش مع الطبقة الأكثر فقراً وبؤساً. ولما كان الماء هو العنصر الذى لا غنى عنه لحياة الإنسان والنبات والحيوان، فقد عكف على استخراجه من الأراضى القاحلة المُحْرِقَة، بحفر الآبار والعيون، ولكن هذا العمل شاقٌ جداً ومحفوف بالمخاطر، ولا سيما فى بلادٍ لا تملك أى وسيلة من آليّات العصر، فالعامل المسكين هو دائماً تحت رحمة التراب الذى يمكن أن ينهار عليه ويدفنه حيّاً، بين لحظةٍ وأخرى. وفى يوم من الأيام لاحظ الكاهن الغيور، أن أحد العمال فى خطر مُحقّق، فما كان منه إلا أن أسرع إليه، ودفعه بعيداً، وأخذ مكانه قائلاً له: «ليس لى زوجة ولا أبناء، فدعنى أقوم بعملك!» وما هى إلا ثوانٍ حتى انهار الحائط على الكاهن وأنهى حياته؛ فذهب ضحية محبته وإنسانيته. ومن الصُدف العجيبة أن هذا الكاهن كتب لأحد أصدقائه قبل أيامٍ قليلة: «إننى بطيبة خاطر، أُضَحّى بحياتى، على شرط أن يحصل الهنود على الماء!». ما أعظم هذه التضحية فى سبيل الغير مهما كلّفنا الأمر! نحن نكرّس الجمعة الأولى من شهر أبريل للاحتفال بإخوتنا وأخواتنا الصغار واليتامى، ومما لا شك فيه أن عدداً لا بأس به يسعى لتقديم المساعدات والمعونات، وآخرين يقومون بالاحتفالات الرائعة لنشر السعادة والبهجة على وجوه هؤلاء. وأمام هذا العمل الإنسانى، نحن لسنا بحاجةٍ إلى أن نضحّى بحياتنا كما فعل الكاهن لتخفيف البؤس والفقر والوحدة عنهم، يكفينا أن نحرم ذواتنا بعض مشتهياتها، ونوفّر بعض ما ننفقه على شراء أشياء لا فائدة منها، ليتمكّن الجياع من الشبع، والعطاش من الارتواء. ما أكثر إخوتنا اليتامى والمحرومين من أشياء كثيرة، ويستطيع كلُّ شخصٍ منّا أن يقوم بهذه الرسالة السامية، ويمد لهم يد المعونة. إذاً لا يستطيع أى شخص أن يعفى نفسه من فضيلة الإحسان والصدقة وعمل الرحمة. كم من اليتامى الذين هم بحاجةٍ إلى كلمة تُطيب قلبهم وتخفف ألمهم، أو إلى نظرة وداد ورحمة ترفع من معنوياتهم، وإلى ابتسامة صادقه تُشعرهم بأنهم أخوة لنا! إذاً يجب علينا ألا نبخل عليهم بنعمة العطاء سواء المادى أو المعنوى، ونستطيع أن نحرم أنفسنا من أشياءٍ بسيطة لا تكلفنا على الإطلاق، ولكنها تعوّضهم كثيراً. لم يكن الحرمان أبداً سبب شقاء وعذاب، بل هو سبيل إلى الرقى والتسامى والسعادة والسلام الداخلى، لأن العطف على الآخرين، هو سبيل إلى اكتساب رضا الله واحترام الناس وراحة القلب. هذا فضلاً عن البركات التى يفيضها الله علينا، لأن فعل الرحمة يحمل معه دائماً بركته، خاصةً الشعور بالرضا والسعادة. إذاً يجب أن نشّمر عن سواعدانا للعمل مع أرباب الخير ودعاة الفضيلة، لأن مبدأ النفوس العظيمة والقلوب النبيلة: عدم التخوّف من المسئولية وحب المغامرة، والغبطة بوفرة العمل الذى يتطلب كثيراً من الجهد والتضحية والحرمان. لا تكفينا الصلوات طوال اليوم، أو الاكتفاء بعاطفة المحبة نحو المحتاجين واليتامى إن لم نقم بمبادرة فعليّة فى سدّ حاجتهم. إذاً مَنْ يتطّلع لسماع صوت الله والشعور بوجوده؛ يجب عليه أن يقوم بزيارة الملاجئ والمستشفيات كما يذهب للصلاة، وأن يتحنن على الفقير الواقف على بابه، كما يطّلع ويقرأ فى الكتب المقدسة. إن الله أنعم علينا بمحيط عائلى، ووالدين يغمراننا بالحُب والحنان، فهل فكّرنا يوماً بالأيتام؟! هؤلاء لا يجدون قلباً يضمّهم، ولا شفاهاً تطبع على جباههم قُبلة الحنان، ولا عيوناً أبوية تغمرهم بنظرة حب! هل نظرنا إليهم نظرة ملؤها الحنان والحُب، أو قلنا لهم كلمة طيبة تشدد من أزرهم وترفع معنوياتهم؟ هل نحن فى استعداد لعمل ما هو صالح فى سبيلهم ومستقبلهم؟ مما لا شك فيه أن العطاء وعمل الرحمة والاهتمام بالآخرين، يتركون أثراً طيباً فينا ويمنحوننا السعادة والراحة النفسية. ونختم بكلمات الفيلسوف w. James: «من يرفض نير التضحية، سوف يتلوّى عاجلاً أو آجلاً تحت لذع الرذيلة».
مشاركة :