من يتأمل هجرة المسلمين إلى الحبشة في العهد المكي ربما يجد أنها لم تكن هجرة بالمفهوم المباشر للذهن بل كانت في بُعد مهم من أبعادها حالة انعتاق وتطلع إلى المعاني المتسعة والمفاهيم المركزية التي اغتالها ضيق النموذج المصنوع على عين الإنسان . إن واحدة من الإشكالات التي تصيب عقل الإنسان وتعطب طريقة تفكيره هي ارتهانه لنموذج محدد يضيق شيئاً فشيئاً نحو عوامل واقعية كثيرة دون وجود مفاهيم مهيمنة متسعة تعيد له توازنه وتحثه على تجديد نموذجه القائم . كان معنى العدل هو القيمة المنشودة في أرض الحبشة ذلك الوقت ولو ظل الصحابة رضي الله عنهم أسرى لإسقاطات الظلم القرشي لم يكن ممكنا بناء تلك المخيلة العدلية في عقولهم وتطبيقها على أنفسهم وغيرهم وائتمانهم على الدين ونشره بعد رحيل الرسول عليه الصلاة والسلام . إن واحدة من أكبر المشكلات التي ألقت بظلالها على العقل المسلم المعاصر تحديداً هي علاقته بالنماذج التي بدت مأزومة لاختناقها بعوامل مختلفة ويمكن ضرب مثالين صارخين وهما “الجماعات الإسلامية” وعلاقة المسلم بـ “الدولة الوطنية الحديثة”. لقد غابت مع مرور الزمن وضيق الأفق والانشغال بالصغائر هيمنة المعاني المتسعة والمفاهيم المركزية الوجودية وضاعت بوصلة العمل الصائب، وكان من نتائج ذلك سلبيات عديدة لعل أخطرها “الاتجاه العدمي” لدى فئة من الشباب ممثلاً في العنف والإلحاد واللامبالاة وتساقط القيم . يمكن القول أن الهجرة إلى هذه المعاني ونحن مقيمون مكاناً هو واجب الوقت على المؤثرين في المشهد العام في الدول الإسلامية، صحيح أن الحاجة ماسة لرؤية قيم العدالة والتراحم وغيرها واقعاً ليمكن الإشارة إليها اقتداء، لكن صناعتها في النفوس والعقول هي محطة الانطلاق ولا شك . لقد تغيرت قواعد المعادلة منذ الحبشة حتى عبارة ربعي بن عامر الشهيرة وكيف أن المسلم مبتعث لا مهاجر ليخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا أيضا والآخرة . هذا الفهم العميق عند خريجي جامعة محمد عليه الصلاة والسلام هو ما نحتاج إليه لإعادة التوازن للنفوس والعقول التائهة في الدروب الضيقة . رأي طارق العرادي t.alarady@saudiopinion.org
مشاركة :