سعة المعنى بين الحقيقة والمجاز

  • 8/18/2023
  • 02:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم‭: ‬عاطف‭ ‬الصبيحي أحد‭ ‬وجوه‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬العربية‭ ‬هو‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمجاز‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الألفاظ،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬معانٍ‭ ‬ودلالات‭ ‬يحملها‭ ‬باب‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمجاز‭ ‬بين‭ ‬ثناياه،‭ ‬طلبًا‭ ‬للاتساع‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اقتضاه‭ ‬السياق،‭ ‬والحقيقة‭: ‬هي‭ ‬اللفظ‭ ‬المستعمل‭ ‬فيما‭ ‬وُضِع‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬العرب‭ ‬بغير‭ ‬تصرّف‭. ‬والمجاز‭: ‬هو‭ ‬اللفظ‭ ‬المتصرَّف‭ ‬فيه؛‭ ‬إمّا‭ ‬باستعماله‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬وُضع‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬العرب،‭ ‬ويسمى‭ ‬بالمجاز‭ ‬اللغوي،‭ ‬ويطلق‭ ‬على‭ ‬الاستعارة‭ ‬والمجاز‭ ‬المرسل،‭ ‬وذلك‭ ‬كقولك‭: ‬رأيتُ‭ ‬أسدًا‭ ‬يقاتل‭ ‬الأعداء؛‭ ‬في‭ ‬استعارة‭ ‬الأسد‭ ‬للجندي،‭ ‬وقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬فَتَحْرِيرُ‭ ‬رَقَبَةٍ‮»‬‭ ‬النساء‭ ‬92،‭ ‬باستعمال‭ ‬الرقبة‭ ‬مجازًا‭ ‬مرسلًا‭ ‬عن‭ ‬العبد‭.‬‮‬وإمّا‭ ‬بإسناد‭ ‬الفعل‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬معناه‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬فاعله‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ويسمى‭ ‬بالمجاز‭ ‬العقلي؛‭ ‬وذلك‭ ‬كإسناد‭ ‬الشفاء‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬في‭ ‬قولك‭: ‬شفى‭ ‬الطبيبُ‭ ‬المريضَ؛‭ ‬حيث‭ ‬أُسند‭ ‬الشفاء‭ ‬للطبيب‭ ‬على‭ ‬المجاز‭ ‬العقلي،‭ ‬والشافي‭ ‬هو‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭. ‬وأمثلة‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمجاز‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فمن‭ ‬ذلك‭:‬ قوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ (‬المدثر‭-‬4‭). ‬من‭ ‬المفسِّرين‭ ‬مَن‭ ‬حمَلها‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬ومنهم‭ ‬مَن‭ ‬حملها‭ ‬على‭ ‬المجاز،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬جوّز‭ ‬الجمع‭ ‬بينهما؛‭ ‬فقد‭ ‬رجّح‭ ‬أبو‭ ‬حيان‭ ‬الحقيقة‭ ‬رغم‭ ‬حكايته‭ ‬للأقوال‭ ‬المرجّحة‭ ‬للمجاز،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬قيل‭: ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬طهارة‭ ‬العمل،‭ ‬وعمَلك‭ ‬فأَصْلِح‮»‬‭ ‬وقيل‭: ‬كنّى‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬بالثياب،‭ ‬قاله‭ ‬ابن‭ ‬عباس،‭ ‬وهناك‭ ‬أقوال‭ ‬كثيرة‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد،‭ ‬كالكناية‭ ‬بالثياب‭ ‬عن‭ ‬الجسد‭ ‬أو‭ ‬الأهل‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭ ‬‮«‬هنّ‭ ‬لباس‭ ‬لكم‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الخُلق‭ ‬وغيره‭.‬ ومال‭ ‬الألوسي‭ ‬إلى‭ ‬المجاز‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّر‮»‬،‭ ‬تطهير‭ ‬الثياب‭ ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬تطهير‭ ‬النفس‭ ‬عمّا‭ ‬تُذَمُّ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الأفعال،‭ ‬وتهذيبها‭ ‬عما‭ ‬يُستهجَن‭ ‬من‭ ‬الأحوال؛‭ ‬لأن‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يرضى‭ ‬بنجاسة‭ ‬ما‭ ‬يماسُّه‭ ‬كيف‭ ‬يرضى‭ ‬بنجاسة‭ ‬نفسه،‭ ‬وشاركه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬جمهرة‭ ‬من‭ ‬السلف‭.‬ ومع‭ ‬ميل‭ ‬الألوسي‭ ‬للمجاز‭ ‬فإنّ‭ ‬ظاهر‭ ‬كلامه‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬التالية‭ ‬عدم‭ ‬استبعاد‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وكأنّه‭ ‬يجوّز‭ ‬الجمع‭ ‬بينهما،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬الرُّجْزَ‭ ‬فَاهْجُرْ‮»‬‭ (‬المدثر‭-‬5‭) ‬،‭ ‬كلامٌ‭ ‬جامعٌ‭ ‬في‭ ‬مكارم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬كأنه‭ ‬قيل‭: ‬اهجر‭ ‬الجفاء‭ ‬والسفه‭ ‬وكلَّ‭ ‬شيء‭ ‬يقبح‭ ‬ولا‭ ‬تتخلّق‭ ‬بأخلاق‭ ‬هؤلاء‭ ‬المشركين،‭ ‬وعليه‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬أمرًا‭ ‬بالثبات‭ ‬على‭ ‬تطهير‭ ‬الباطن‭ ‬بعد‭ ‬الأمر‭ ‬بالثبات‭ ‬على‭ ‬تطهير‭ ‬الظاهر‭ ‬بقوله‭ ‬سبحانه‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬حمَل‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ ‬على‭ ‬تطهير‭ ‬الظاهر،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬فيه‭ ‬تطهير‭ ‬الثياب‭.‬ أمّا‭ ‬ابن‭ ‬كثير‭ ‬فقد‭ ‬حكى‭ ‬الأقوال‭ ‬السابقة‭ ‬ثم‭ ‬رجّح‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمجاز،‭ ‬فذكر‭ ‬مَن‭ ‬ذهبَ‭ ‬إلى‭ ‬المجاز‭ ‬كقول‭ ‬القائل‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تلبسها‭ ‬على‭ ‬معصية‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬غدرة‭. ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬أمَا‭ ‬سمعت‭ ‬قول‭ ‬غيلان‭ ‬بن‭ ‬سلمة‭ ‬الثقفي‭:‬ فإني‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬ثوب‭ ‬فاجر‭.. ‬لبست‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬غدرة‭ ‬أتقنّع ‭ ‬وقال‭ ‬العوفي،‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ ‬يعني‭: ‬لا‭ ‬تك‭ ‬ثيابك‭ ‬التي‭ ‬تلبس‭ ‬من‭ ‬مكسب‭ ‬غير‭ ‬طائب،‭ ‬ويقال‭: ‬لا‭ ‬تلبس‭ ‬ثيابك‭ ‬على‭ ‬معصية‭.‬ ثم‭ ‬ذكر‭ ‬قول‭ ‬مَن‭ ‬ذهبَ‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬فقال‭: ‬وقال‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سيرين‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ ‬أي‭: ‬اغسلها‭ ‬بالماء‭.‬ وقال‭ ‬ابن‭ ‬زيد‭: ‬كان‭ ‬المشركون‭ ‬لا‭ ‬يتطهرون،‭ ‬فأمره‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يتطهر،‭ ‬وأن‭ ‬يطهر‭ ‬ثيابه‭. ‬وهذا‭ ‬القول‭ ‬اختاره‭ ‬ابن‭ ‬جرير،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬وقد‭ ‬تشمل‭ ‬الآية‭ ‬جميع‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬طهارة‭ ‬القلب،‭ ‬فإنّ‭ ‬العرب‭ ‬تطلق‭ ‬الثياب‭ ‬عليه،‭ ‬وقال‭ ‬سعيد‭ ‬بن‭ ‬جبير‭: ‬‮«‬وَثِيَابَكَ‭ ‬فَطَهِّرْ‮»‬‭ ‬وقلبك‭ ‬ونيتك‭ ‬فطهر،‭ ‬والذي‭ ‬نراه‭ ‬أنّ‭ ‬السياق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السورة‭ ‬الكريمة‭ ‬لا‭ ‬يأبَى‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬المعاني‭ ‬المذكورة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬سواء‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬حقيقة‭ ‬أو‭ ‬مجازًا؛‭ ‬وذلك‭ ‬باعتبارها‭ ‬وجوهًا‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬صالحة‭ ‬للفظ‭ ‬الواحد،‭ ‬ويؤيّدها‭ ‬السياق‭ ‬ولا‭ ‬يأباها؛‭ ‬وذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يجتمع‭ ‬له‭ ‬صلاح‭ ‬الظاهر‭ ‬والباطن‭ ‬،التي‭ ‬ترغّب‭ ‬في‭ ‬الإقبال‭ ‬عليه‭ ‬وتحول‭ ‬دون‭ ‬النفرة‭ ‬منه،‭ ‬مع‭ ‬صلاح‭ ‬الباطن‭ ‬واستقامة‭ ‬الخلُق‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يعثر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬هفوة‭ ‬تكون‭ ‬حجّة‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬دعوته‭.‬ ومجيء‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضع‭ ‬محتملة‭ ‬لكلّ‭ ‬ما‭ ‬ذُكر‭ ‬مما‭ ‬يقتضيه‭ ‬السياق‭ ‬ويتّسع‭ ‬له،‭ ‬هو‭ ‬أبلغ‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬إعجاز‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬العزيز،‭ ‬وكونه‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬حكيم‭ ‬حميد‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬وَتَزَوَّدُوا‭ ‬فَإِنَّ‭ ‬خَيْرَ‭ ‬الزَّادِ‭ ‬التَّقْوَى‭ ‬وَاتَّقُونِ‭ ‬يَا‭ ‬أُولِي‭ ‬الْأَلْبَابِ‮»‬‭ (‬البقرة‭-‬197‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬الزاد‭ ‬جنسًا‭ ‬يشمل‭ ‬كِلا‭ ‬النوعين‭ ‬الحقيقي‭ ‬الحسّي‭ ‬المعهود،‭ ‬أو‭ ‬المجازي‭ ‬المعنوي‭ ‬وهو‭ ‬تقوى‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬فحمل‭ ‬الزاد‭ ‬على‭ ‬معنييه‭ ‬الحقيقي‭ ‬والمجازي‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اتساعٍ‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬يقتضيه‭ ‬السياق‭ ‬والمقام؛‭ ‬فإنّ‭ ‬المقصود‭ ‬هو‭ ‬الاعتدال‭ ‬في‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة‭.‬

مشاركة :