بقلم: عاطف الصبيحي أحد وجوه الجمال في لغتنا العربية هو الحقيقة والمجاز في استخدام الألفاظ، ومع هذا الجمال معانٍ ودلالات يحملها باب الحقيقة والمجاز بين ثناياه، طلبًا للاتساع في المعنى إذا ما اقتضاه السياق، والحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وُضِع له في لغة العرب بغير تصرّف. والمجاز: هو اللفظ المتصرَّف فيه؛ إمّا باستعماله في غير ما وُضع له في لغة العرب، ويسمى بالمجاز اللغوي، ويطلق على الاستعارة والمجاز المرسل، وذلك كقولك: رأيتُ أسدًا يقاتل الأعداء؛ في استعارة الأسد للجندي، وقوله تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» النساء 92، باستعمال الرقبة مجازًا مرسلًا عن العبد.وإمّا بإسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير فاعله الحقيقي، ويسمى بالمجاز العقلي؛ وذلك كإسناد الشفاء إلى الطبيب في قولك: شفى الطبيبُ المريضَ؛ حيث أُسند الشفاء للطبيب على المجاز العقلي، والشافي هو الله على الحقيقة. وأمثلة الجمع بين الحقيقة والمجاز عديدة في كتاب الله تعالى، فمن ذلك: قوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» (المدثر-4). من المفسِّرين مَن حمَلها على الحقيقة ومنهم مَن حملها على المجاز، ومنهم من جوّز الجمع بينهما؛ فقد رجّح أبو حيان الحقيقة رغم حكايته للأقوال المرجّحة للمجاز، قال: «قيل: كناية عن طهارة العمل، وعمَلك فأَصْلِح» وقيل: كنّى عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس، وهناك أقوال كثيرة بهذا الصدد، كالكناية بالثياب عن الجسد أو الأهل لقوله تعالى «هنّ لباس لكم» أو الخُلق وغيره. ومال الألوسي إلى المجاز فقال: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّر»، تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عمّا تُذَمُّ به من الأفعال، وتهذيبها عما يُستهجَن من الأحوال؛ لأن مَن لا يرضى بنجاسة ما يماسُّه كيف يرضى بنجاسة نفسه، وشاركه في هذا جمهرة من السلف. ومع ميل الألوسي للمجاز فإنّ ظاهر كلامه في الآية التالية عدم استبعاد الحقيقة، وكأنّه يجوّز الجمع بينهما، قال: «الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (المدثر-5) ، كلامٌ جامعٌ في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفاء والسفه وكلَّ شيء يقبح ولا تتخلّق بأخلاق هؤلاء المشركين، وعليه يحتمل أن يكون هذا أمرًا بالثبات على تطهير الباطن بعد الأمر بالثبات على تطهير الظاهر بقوله سبحانه: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» حيث حمَل: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» على تطهير الظاهر، ولا شك أن أوّل ما يدخل فيه تطهير الثياب. أمّا ابن كثير فقد حكى الأقوال السابقة ثم رجّح الجمع بين الحقيقة والمجاز، فذكر مَن ذهبَ إلى المجاز كقول القائل: «لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال: أمَا سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر.. لبست ولا من غدرة أتقنّع وقال العوفي، عن ابن عباس: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» يعني: لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية. ثم ذكر قول مَن ذهبَ إلى الحقيقة فقال: وقال محمد بن سيرين: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» أي: اغسلها بالماء. وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه. وهذا القول اختاره ابن جرير، ثم قال: وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإنّ العرب تطلق الثياب عليه، وقال سعيد بن جبير: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» وقلبك ونيتك فطهر، والذي نراه أنّ السياق في هذه السورة الكريمة لا يأبَى الجمع بين المعاني المذكورة في هذه الآية سواء منها ما كان حقيقة أو مجازًا؛ وذلك باعتبارها وجوهًا من المعاني صالحة للفظ الواحد، ويؤيّدها السياق ولا يأباها؛ وذلك لأنّ الداعي إلى الله، ينبغي أن يجتمع له صلاح الظاهر والباطن ،التي ترغّب في الإقبال عليه وتحول دون النفرة منه، مع صلاح الباطن واستقامة الخلُق بحيث لا يعثر له على هفوة تكون حجّة عليه وعلى دعوته. ومجيء هذه الكلمة في هذا الموضع محتملة لكلّ ما ذُكر مما يقتضيه السياق ويتّسع له، هو أبلغ دلالة على إعجاز هذا الكتاب العزيز، وكونه من لدن حكيم حميد. ومن ذلك قوله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (البقرة-197)، حيث جعل الزاد جنسًا يشمل كِلا النوعين الحقيقي الحسّي المعهود، أو المجازي المعنوي وهو تقوى الله تعالى، فحمل الزاد على معنييه الحقيقي والمجازي لما في ذلك من اتساعٍ في المعنى يقتضيه السياق والمقام؛ فإنّ المقصود هو الاعتدال في الجمع بين الدنيا والآخرة.
مشاركة :