تتخذ رواية «حياة الفراشات»، للكاتب والمسرحي المغربي يوسف فاضل فضاءات «الدّار البيضاء»، ساحة لأحداثها التي تجري في سبعينيات القرن الماضي كمرحلة مهمة من تاريخ المغرب، على مدار خمسة أيام، وقبل اليومِ الأخير، سنجدُ أنفُسَنا وقد عشنا هامشَ الهامِش، ولامسنا أجواء مدينةِ الدَّار البيضاء آنذاك. إنها في الواقع رواية حفر عميق في نفسية الشخوص، ورسم لمصائر متشابكة ومتقاطعة مع الحاضر بحذر شديد لموضوع يحتمي بقدر كبير من الخيال. يعود فاضل من خلال هذه الأجواء إلى حقبة السبعينيات من خلال بطل الرواية «سالم»، الموسيقي والفنان المشهور الذي يعزف في ملهى «دون كيشوت»، هذا الأخير ذهب إلى مبنى الإذاعة لتسجيل أغنيته الثالثة في بناية عتيقة اسمها زنقة البريهي بالرباط،، ثم تتوالى الأخبار ووقائع السرد المتلاحقة بعد ذلك. يشيد فاضل في روايته بما فيها من جدلية، حياة بأكملها وإن بدت ناقصة، إلاّ أنّه نقصان مقصود لغرض معاينة التناقضات أو (التضاد) كما هو في بناء المسرحيات، التي تصنع السرد الوصفي المشوّق، وما بين المشاهد الدامية، نتعايش مع حياة ثانية تنطلق فيها من حولنا الموسيقى، تداهمنا من النَّافذة، من الجدران الصّمّاء، من ذاكرتنا المُنهكة. نتتَّبعُ خطى شخصياتٍ يتقمَّصُها الرَّاوي، بل نتشابك مع مصائر تلك الشخصيات، وهي تمضي وتتقاطع وتنتهي على أرضٍ غير صلبةٍ، حيثُ الحبُّ المُشتعل، والمدينةُ الصاخبة، والجنون المُتَّقد، والحكاياتُ والأنغامُ والمقطوعات الموسيقية الصاعدة مع دخان نادي «دون كيشوت» المحترق والمتناثرة هنا وهناك. يمارس فاضل في روايته، حفريات في بنى المجتمع المغربي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويرسم خطوطاً للمتغيرات التي شملت تلك البنى طيلة عقود، ابتداء من السبعينيات، متوازياً ذلك مع صنعة متقنة في عالم السرد، حيث التنويع في أصوات الرواة وفي لغاتهم أيضاً، فلكل واحد منهم لغة تتوافق مع شخصيته وثقافته ومهنته، ما دفعه في بعض المقاطع والفصول إلى اعتماد بعض المفردات العامية، وبخاصة في تصويره لبعض الطقوس الاجتماعية المتوارثة في بعض المناطق المغربية، هذا فضلاً عن سوية استخدام اللغة الرفيعة ودقتها، في إطار مستويات عدة من السرد والحوار الدرامي. وما يميز روايات فاضل عوالمها وطبيعة شخوصها التي تنتمي إلى محيط المنسيين والمهمشين، ويمكن القول كذلك، إن عوالمه تشبه أجواء نجيب محفوظ الذي بادر إلى نمذجة ظلال الواقع وهوامشه مع حواف من الأمل، وهنا وعلى الرغم من «القتامة» التي تظلل فضاءات «حياة الفراشات»، إلاّ أن فاضل لا يغفل الضوء الساطع في آخر النفق، ومع كل ما حدث إلاّ أنّ الأمل يبقى هو الهدف، وفي الضمني، هي رواية الأمل، الذي يجب أن لا نفتقده، حتى ولو بدا حال الفرد أحياناً محبطاً، كحياة الفراشات الفرحات بأنوار الضوء حتى لو احترقت به.
مشاركة :