تخيل معي هذه المفارقة.. أن تدخل المستشفى الحكومي المزدحم في مدينتك، أن تكافح بورقة التحويل التي في يديك بين الممرات والأبواب ونوافذ المواعيد، أن تنال بعد جهد وانتظار موعداً يمتد شهوراً عديدة، وعندما تبدي اعتراضاً على ذلك الموعد البعيد يقول لك الموظف إن الضغط شديد على المستشفى وإن عدد المراجعين كبير جداً، وأن هذه هي الإمكانية القصوى للمكان. قد تبدي تفهماً لما تسمع، فالكفاءات الطبية نادرة وليست متوفرة بسهولة، ولابد من التحلي بالانتظار قليلاً حتى ينفرج الوضع، وبينما أنت في غمرة خيالاتك تلك يرتطم كتفك بشاب يعبر في ذات الممر ويبدو على ملامحه الهم، تتناثر بضع ورقات من يده على الأرض وينحني لجمعها، تشعر بالحرج وتنحني لمساعدته وأنت تعتذر، يجيبك بأن لا تهتم وحصل خير، وبعد جمل تعارف قصيرة تكتشف أنه طبيب سعودي متخرج من جامعة سعودية عريقة وأنه يراجع هذا المستشفى وغيره منذ شهور بحثاً عن وظيفة! يرتفع حاجباك دهشة وتعجباً، تعاود التحديق في ورقة الموعد في يدك وتعود لتسأله، وهل لديك مشكلة خاصة في أوراقك؟ فيجيبك بأن معظم زملاء دفعته بلا وظائف وأنهم يبحثون عن أي فرصة عمل سواء في القطاع الحكومي أو الخاص ولكن دون جدوى حتى الآن. تتسع عيناك أكثر.. تحدق في وجهه المهموم ومن خلفه الممرات وقاعات الانتظار المزدحمة وموظف الاستقبال يرد على مراجع غاضب بذات الرد الذي أجابك. تسأل الشاب السؤال التقليدي «ولكن لماذا؟» فيجيبك بأن المسؤولين يؤكدون أن هناك «تكدسا واكتفاء في الوظائف الشاغرة!». هذا المشهد على غرابته ومأساويته مشهد واقعي جداً مع الأسف، ويجسد إحدى العلل التي يشتكي منها جسد النظام الصحي لدينا، النظام الذي ما زال يرتهن لسياسة عقيمة تصر على عدم التفرقة بين الطبيب وموظف الأرشيف في نظام التعيين التي ترى المستشفى والمدرسة والإدارة الحكومية مجرد منشآت تطلب ميزانيات وموظفين فتمنح حيناً وتمنع أحياناً كثيرة. ففي الوقت الذي تشير فيه الإحصائيات الرسمية إلى أن عدد إجمالي القوى العاملة من الأطباء في السعودية لا يتجاوز 24 % ، وأقل من 4 أطباء أسنان لكل عشرة آلاف مواطن، وهي نسبة أقل من دول عربية فقيرة في المنطقة كالأردن ولبنان وحتى فلسطين المحتلة! فإن قرار التوسع في التوظيف وتوسيع قاعدة الخدمات الصحية ما زال يلقى ممانعة وتباطؤاً من وزارتي المالية والخدمة المدنية اللتين تريان أن عدد الوظائف كافٍ في المدن وأن لا حاجة لتوظيف مزيد من طالبي العمل من الأطباء وأطباء الأسنان ولا يمكن أن تلام في ذلك لأنها ترى بعين حارس الخزانة لا بعين المختص أو صاحب الحاجة. لكن لماذا لا يجد أولئك الأطباء وظائف في القطاع الخاص كذلك؟ تلك قصة أخرى نتناولها الأسبوع المقبل بإذن الله.
مشاركة :