أنكر الله عز وجل على المسلمين الأخذ بحكم الجاهلية في قوله تعالى «أفحكم الجاهلية تبغون». ويبدو أن جمهورا كبيرا من المسلمين اتخذوا من هذا الإنكار الإلهي جواز مرور ورخصة للطعن في عرب الجاهلية وذمّهم أينما كانوا في جزيرة العرب قبل الإسلام. فهم كفار مشركون يتقاتلون على ثأر أو بئر ماء أو مرعى أو حتى على ناقة أو جمل. وهم قساة القلوب معاشهم على السلب والنهب وأسر الرجال وسبي النساء ووأد البنات.. وقل ما شئت في عرب الجاهلية فستلقى أذنا صاغية. تلك النظرة السلبية لا تخلو من حقيقة يعترف بها التاريخ. ولكن ما شأن النواحي الإيجابية في المجتمع العربي في العصر الجاهلي التي ينساها أو التي يتجاهلها الغافلون. وفيما يلي بعض التوضيحات: 1- استعمل عرب الجاهلية كلمة «الجهل» ليس بمعنى عدم المعرفة، وإنما كانت في مقابل عدم الحلم والتعقّل والغلو والإسراف في كل شيء. يقول الشاعر عمرو بن كلثوم: (ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا) ويقول الصمّة القشيري: (بكت عيني اليسرى فلما زجرتها * عن الجهل بعد الحلم, أسبلتا معا) 2- كان عرب الجاهلية يؤمنون بالله خالق الكون بفطرتهم. والشواهد من أشعارهم وأقوالهم كثيرة تتردد على أفواه الصغار والكبار مثل: وأيم الله - لحاك الله - وسباك الله - أحقا عباد الله - جزى الله خيرا - ربّ العباد.. ألا كل شيء ما خلا الله باطل - لبيد. وقد وردت تلك العبارات وأشباهها في كثير من أقوال العرب وكبار الشعراء. وفيهم الحنفاء الموحـّدون على ملة إبراهيم الحنيف، وأتباع الديانات السماوية من النصرانية كالغساسنة ونصارى تغلب (الذين قدموا إلى النبي الأكرم في المدينة يلبسون صلبان الذهب وصالحوه على أن يقـرّهم على دينهم فأقرّهم)، وغيرهم من قبائل اليهود في المدينة ونفر من الموحـّدين الذين تركوا عبادة الأصنام. وكان فيهم كهـّان يبشرون بالإله الواحد كثير منهم من بني عبد القيس وإياد (البحرين) مثل قس ابن ساعدة الايادي الذي قال عنه نبي الإسلام: «رحم الله قـسّا.. إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمـّة وحده». وأما «الايادي» فهو الذي بنى في مكة صرحا وجعل فيه سلما كان يرقاه لمناجاة رب العالمين. وقال فيه الشاعر بشير الايادي: (ونحن «ايــاد» عـبيد الإله * ورهـط مناجيه في الـسّلم) 3- كانت عداوة قريش وسائر قبائل العرب لنبي الإسلام ليست بسبب الدعوة إلى الإيمان بالله، فهي كانت شائعة في زمانهم كما سبق في تلبيتهم في طوافهم حول البيت (لبيك اللهم لبيك - لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)، وكذالك اعترافهم بالله الخالق كما جاء في القران الكريم -الآية 86 -87- المؤمنون: «قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون»، إنما ساءهم غيرة واستكبارا وإنكارا أن يختار الله النبي محمدا لرسالته دونهم. وأشار القرآن الكريم إلى ذلك حين قال: «وقالوا لولا نـّزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» – الزخرف31. يروى عن أبي سفيان أنه لما حضر إلى النبي في المدينة مستنجدا عرض عليه الشهادة الأولى أن لا إله إلّا الله، قال: هذه نعم. وأمـّا محمد رسول الله ففي نفسي منها شيء! لكنه أسلم في حصار مكة بشفاعة العباس عم النبي. والسبب الآخر الذي منع قريشا من قبول الدعوة هو الدعوة إلى هدم الأصنام وإزالتها من الكعبة المشرفة.. ولذلك أسباب اقتصادية وتجارية واجتماعية وسياسية لها بحث طويل أكثر منها توحيدية, وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله عز وجل (.. ما نعبدهم إلا ليقـربونا إلى الله زلفى»، ولم تكن الأصنام موجودة من قبل في جزيرة العرب ولكن جيء بها من الدول المجاورة. كذلك يجب ألا ننسى قيام «دار الندوة وحلف الفضول» الذي كان يعقد في دار عبدالله بن جدعان أحد سادات قريش, الذي تعاقدت عليه عشائر قريش وما حولها على ألا يظلم أحد في مكة إلا ردّوا ظلامته، وإغاثة الملهوف وذلك سنة 590م، وقد شهد النبي محمد هذا الحلف قبل بعثته وقال عنه لاحقا: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبدالله بن جدعان ما أحب أنّ لي به حمر النعم, ولو دعيت به في الإسلام لأجبت». ومكارم الأخلاق اشتهر بها عرب الجاهلية في حواضرهم وبواديهم وصارت مضرب الأمثال مثل الكرم الحاتمي. ووفاء السموأل, ونجدة المستغيث والمروءة وإكرام الضيف والشجاعة, والنخوة والوفاء بالعهد وكثير غيرها.. واستـلّ منها الإسلام أحسن صفاتها وحماها من الإسراف الجاهلي. فالشجاعة أصبحت في الجهاد في سبيل الله، والكرم في الزكاة والصدقات، والغيرة على النساء في العــّفة، وما كان يذبح على النصب والأصنام والأزلام أصبح لوجه الله في هدي الحج وللفقراء واليتامى والمساكين والأسرى (ويطعمون الطعام على حبـّه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).. إلى غير ذلك مما كان في الجاهلية وتم تحويله لصالح الإسلام وضعفاء المسلمين. بل إن كثيرا من شعائر الحج أبقي على بعض مساراتها في الجاهلية كالطواف والتلبية والوقوف في عرفات والهدي وبعض الشعائر الأخرى المذكورة في السـّير. وخلاصة القول فإن لعرب الجاهلية وجهين.. وجها مظلما تصّدى له الإسلام بتعاليمه السمحة ووجها آخر مشرقا أضاء لعرب الجاهلية طريقهم لتقبل الإسلام وإعلاء كلمة الله ووحدهم ليصبحوا موضع الرسالة المحمدية: (.. وألـّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّـفت بين قلوبهم ولكن الله ألـّف بينهم إنـّه عزيز حكيم) 63 الأنفال. فهل يعني ذلك أن تأليف قلوب العرب يساوي إنفاق ما في الأرض جميعا.. نرجو الله ذلك. وقد تنبـّه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفطنته إلى موقع الأمة العربية من رسالة الإسلام حين أوصى بعرب البادية في قوله: «وأوصيكم بعرب البادية خيرا فإنهم أصل العرب وماّدة الإسلام». www.taqialbaharna.com
مشاركة :