وسط الشمس الحارقة وبملابس متهالكة يقف عبد الله كل صباح في أحد تقاطعات شارع حدة بقلب العاصمة اليمنية ليبيع المناديل للسيارات التي تقف على إشارات المرور، لكن النهار انتصف ولم يبع سوى علبتين عائده منهما لا يزيد على 300 ريال يمني لا تكفي لشراء علبتي زبادي يطعم بهما أسرته التي تنتظره في البيت. السيارات التي تتحرك في المدينة قليلة جداً، إما بسبب هروب عشرات الآلاف منها، أو بسبب غياب الوقود وبيعه بالسوق السوداء بثلاثة أضعاف قيمته، وتراجع قدرة الناس على الشراء. ومن يمتلكون المال إما غادروا اليمن الى بلدان أخرى انتظارا لما ستؤول اليه الأوضاع أو نقلوا أموالهم الى هناك وشرعوا في إقامة مشاريع تجارية بعيدا عن سطوة الميليشيات والفوضى التي أضحت السمة الرئيسية للعاصمة اليمنية. تدهور المعيشة يقول الفتى عبد الله وهو في الـ12 من العمر ويضع علب المناديل فوق رأسه لتقيه حرارة الشمس: قبل الحرب كنت اكسب في اليوم من ألف إلى 1500 ريال، وكان السائقون يدفعون لي زيادة على سعر المناديل لأني صغير، وتشجيعا لي لأني لا أتسول، لكن الآن الناس كلها تعيش أوضاعاً صعبة. عام كامل والأوضاع تتراجع. الأعمال توقفت والشركات أغلقت ومن بقي في المدينة الآن يبحث عن مأوى في الأرياف خوفاً من مهاجمة قوات التحالف للمدينة. إلى ما قبل مغامرة الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع بالاستيلاء على العاصمة ومن ثم الانقلاب على الشرعية الدستورية الممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، كان اليمنيون يعيشون على آمال وتطلعات تنفيذ مخرجات الحوار الوطني وبناء دولة اتحادية حديثة تزول فيها كل المظالم في الجنوب والشمال، ولكن سكان صنعاء باتوا اليوم يبحثون عن مخرج للهروب من قمع الميليشيات ويقاسون من شدة الفقر وانقطاع الخدمات، فلا كهرباء ولا مياه ولا وقود، والأسعار تضاعفت أربع مرات، والأعمال توقفت بشكل تام ما جعل الناس غير قادرين على تحمل نفقات المعيشة اليومية. إجراءات مهينة استولت الميليشيات التي تنتشر في كل أحياء وشوارع المدينة، وتسيطر على الوزارات والمصالح، على مقدرات البلد، وتخضع السكان لإجراءات أمنية مهينة، وصلت حد اقتحام المنازل واقتياد مئات الأشخاص وإخفائهم عن أهاليهم لمجرد الاشتباه في معارضتهم لأداء هذه الميليشيات، وأغلقت مئة صحيفة يومية وأسبوعية وتسع محطات تلفزيونية ومكاتب لقنوات فضائية اغلقت أيضا، كما أن أكثر من 12 صحافيا لا يزالون رهن الاعتقال، وأخضع السكان لرقابة شديدة على اتصالاتهم الهاتفية، وكتاباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، كما تم حجب اكثر من 30 موقعاً إلكترونياً لنشرها أخبار التطورات في اليمن والتي لا تتفق ورؤية تحالف الانقلاب. معتقل كبير غادر كل السياسيين من خارج التحالف الانقلابي للحوثيين والرئيس السابق صنعاء الى عدن أو الى الخارج، وكل النشطاء فروا من الاعتقال، والصحافيون أيضا باستثناء قلة من المراسلين لبعض وسائل الإعلام الغربية، إذ حول تحالف الحوثي وصالح المدينة الى معتقل كبير، فكل السياسيين والصحافيين ممنوعون من السفر، وموضوعون تحت المراقبة الشديدة، ويخشى الموظفون الحكوميون ان يجدوا أنفسهم في الغد دون مرتبات بعد ان تم تسخير الموازنة العامة للدولة لصالح الحروب التي يخوضها الحوثيون وصالح ضد المدن والمحافظات بغية إخضاعها لسيطرتهم. أحقاد وكراهية العاصمة اليمنية التي كانت مثالاً لتعايش كل سكان البلاد من مختلف المناطق والاتجاهات باتت تضج بالكراهية والأحقاد التي أوجدتها مغامرة الحوثيين وصالح، وتتهيأ لتجربة تاريخية فريدة باعتبارها عاصمة للدولة الاتحادية التي أقرها مؤتمر الحوار الوطني، وتعيش الآن أوضاعا إنسانية واجتماعية مرعبة، وتحولت احياؤها الى مخازن للسلاح، وأغرقت بالمسلحين الذين يرصدون أنفاس السكان، ويفرزونهم حسب انتماءاتهم الجهوية خشية الثورة الشعبية عليهم بفعل النقمة المتزايدة من ممارساتهم. هذه الميليشيات كانت رفعت شعار رفض زيادة أسعار الوقود الذي اتخذته حكومة محمد سالم باسندوه كمبرر لاقتحامها العاصمة، لكنها باتت اليوم شريكا رئيسيا لتجار السوق السوداء الذين يبيعون الوقود بأضعاف الأسعار الرسمية وتحت حماية الميليشيات في كل شوارع المدينة التي أضحت أماكن لبيع البترول، حيث تباع عبوة العشرين لترا بثمانية آلاف الى عشرة آلاف ريال، في حين ان سعرها الرسمي قبل الانقلاب كان ثلاثة آلاف ريال ومتوفرة في كافة محطات تعبئة السيارات، ومادة الغاز المنزلي التي تباع بستة آلاف ريال للأسطوانة في حين ان سعرها عند اقتحام الحوثيين للمدينة لم يتجاوز 1500 ريال. شوارع فارغة المدينة التي كانت تعج شوارعها بالحياة ويقطنها نحو ثلاثة ملايين شخص أصبحت شبه ميتة شوارعها فارغة، إلا من طوابير السيارات التي تقف بجوار محطات البترول لأكثر من أسبوع أملاً في الحصول على كمية من الوقود بالسعر الرسمي. الدوائر الحكومية خالية من الموظفين، والمدارس العامة والخاصة مغلقة، والجامعات أيضا، المحلات التجارية مغلقة أو أنها دون بضائع لأن اكثر من 70 في المئة من واردات اليمن الاستهلاكية بما فيها المصنوعات الغذائية ومشتقات الألبان كانت تأتي من دول الخليج العربية. الغذاء والدواء باستثناء المواد الغذائية الرئيسية كالقمح والأرز والسكر والتي تباع بأسعار مضاعفة عما كانت عليه، تخلو متاجر صنعاء من اي منتجات أخرى إلا القليل الذي كان مخزنا لدى هذه المحلات وبدأ بالنفاد. واختفت أصناف كثيرة من الأدوية، وتم تعويض البقية بمنتجات محلية لا تضاهي المنتجات العالمية، كما أدى توقف حركة الشحن الجوي الى انعدام كثير من المحاليل الطبية، وتسبب انقطاع الكهرباء والارتفاع الكبير في أسعار الوقود الى إغلاق عدد من المستشفيات أقساماً عديدة، بينها قسم القلب في مستشفى الثورة العام وهو اكبر مستشفى في اليمن، كما اضطرت المستشفيات الخاصة الى تسريح جزء من العاملين فيها نتيجة ارتفاع تكاليف الخدمات الطبية وعزوف المرضى عن الحضور الى المستشفيات لهدم قدرتهم على تحمل نفقات العلاج. إفلاس المقاهي وأفلست معظم المقاهي الفاخرة التي كانت تتميز بها المدينة بسبب انقطاع الكهرباء وارتفاع أسعار الوقود، وتوقفت أعمال الشركات التجارية وانعدام الرواد، حيث كانت هذه المقاهي ملتقى للنشطاء والكتاب والصحافيين والفنانين الى جانب رجال الأعمال والشباب من الجنسين. وباتت تكاليف الحياة اليومية البسيطة جدا لسكان العاصمة اليمنية فوق القدرة على الاحتمال مقارنة بالرواتب التي يحصل عليها الموظفون، وحتى العاملون في القطاع الخاص الذي توقف معظمه، ففي الشهر الواحد تصل قيمة المياه التي يتم شراؤها الى نحو 20 في المئة من راتب موظف بدرجة مدير عام، أما تكاليف الخبز والألبان فإنها تأخذ ربع الراتب لأسرة متوسطة لا يتجاوز تعدادها خمسة أشخاص، أما اللحوم والفواكه فإنها من الكماليات التي لا يمكن الاقتراب منها إلا لمرة واحدة في الشهر. وتحت ظلام متواصل منذ أبريل الماضي مع توقف خدمة الكهرباء، وقمع ميليشيا مسلحة، يقضي بقية سكان العاصمة اليمنية أيامهم في انتظار انفراجة التحرير، واستئناف حياة كريمة افتقدوها في مغامرة انتقام من مواقفهم الرافضة للظلم والفساد. الخطوط الجوية..نشاط استثنائي المكان الوحيد في صنعاء المزدحم بالناس هو مكتب الخطوط الجوية اليمنية الذي يسيّر ثلاث رحلات أسبوعية فقط الى العاصمة الأردنية، بدلاً من رحلتين في اليوم الواحد بين عمان وصنعاء كانت تسيّر قبل احتلال العاصمة أحدها للخطوط اليمنية والثانية للخطوط الجوية الأردنية، ونتيجة هروب الآلاف من الميسورين من البلاد فإن أصحاب الإمكانات المالية المتواضعة يرابطون أمام مكاتب الشركة في صنعاء لمدة تقارب الأسابيع الأربعة للحصول على مقعد بعد ان يدفعوا رشى تصل الى 300 دولار للمقعد الواحد الى جانب قيمة التذكرة و300 دولار رسوم تأمين إضافية، حتى يتمكنوا من الفرار من الجحيم الذي يعيشون فيه الى الأردن الذي تحول الى محطة لانتقال اليمنيين من بلدهم الى البلدان الأخرى بعد ان فرضت عليهم في بقية البلدان الحصول على تأشيرة دخول مسبقة، في حين أن كل السفارات أغلقت أبوابها وغادرت.
مشاركة :