الكتابة عن المطر، كانت وأظنها مازالت بضاعة الشعراء والكتاب والحالمين، فالمطر بكل تفاصيله الرائعة هو أحد أهم مصادر الإلهام والدهشة والسحر. وقصص الحب والعشق والخيال، استلهمت من زخات المطر وعطش الارض وانتظار القادمين من ازمنة الغياب مع تباشير المطر، عناوينها وعباراتها وأحداثها. للمطر، عالمه الجميل وسحره الأخاذ، فمن منا لم يُمارس اللهو والركض ليجمع حبات المطر؟، ومن منا لم يبلل المطر مشاعر قلبه قبل ثيابه؟ ومن منا لا يعشق الحزن الجميل الذي يُحدثه المطر؟ إن الحالة التي تصنعها زخات المطر، أشبه بعالم من الفرح والدهشة والخيال، وتراكم الغيمات المثقلة بحزن التراب تُثير مشاعر الوجد والأمل وتبعث في النفوس ذكريات الطفولة والبراءة. لقد شكلت قطرات المطر، وعلى مر العصور، دعوة ملحة من الأرض، واستجابة حانية من قبل السماء. لقد ابدع الشعراء في وصف المطر، وأسهب الكتاب في تصوير الحالة التي يُحدثها هطول المطر. كل ذلك بلغة شفافة ورقراقة، تماماً كقطراته المنتشية بلقاء الارض بعد طول غياب. تلك هي الصورة الباذخة التي نحملها للمطر، خاصة حينما يُمارس هوايته الرائعة كرسول فرح يأتي في الموعد دائماً. ولكن، ماذا عن الوجه الآخر لهذا القادم من وجع السحاب؟ لا حديث هذه الأيام، إلا عن الاضرار التي خلفتها الامطار الشديدة التي هطلت على الكثير من أجزاء الوطن. لقد تبارى الكتاب والإعلاميون والمتخصصون، فضلاً عن البسطاء والمتضررين، في كشف حجم الاخطاء والعيوب والقصور والفساد الذي احدثه المطر. بالنسبة لي، لن انضم لتلك الجوقة التي تعزف لحن المطر. انا لن افعل ذلك، ولن اكتب عن اوجه القصور والخلل في البنية التحتية والمرافق العامة وتصريف المياه في الطرق، والفساد في تنفيذ المشاريع والمباني والمدن، وغياب التخطيط والأنظمة والتشريعات، وغرق الشوارع والأنفاق والمدارس والجامعات والمطارات ومباني الدفاع المدني، وانهيار السقوف والجسور والمباني الحكومية، وتحول الساحات والشوارع الى بحيرات ومستنقعات، وخطر السيول الجارفة، والكثير الكثير من الاخطاء والعيوب والتجاوزات التي كشفها المطر. لا، لن اكتب ذلك، أو ربما فعلت الآن! احاول فيما تبقى من هذه البكائية الموسمية التي يُحدثها المطر، أن أكتب عن بعض العيوب والتداعيات الاخرى التي كشفتها حكايتنا المأساوية مع المطر. فكما نُعاني من الخلل والأخطاء والتجاوزات في بنيتنا التحتية ومرافقنا وخدماتنا وخططنا ومشاريعنا، نحن أيضاً نُعاني الكثير من العيوب والتشوهات على المستوى النفسي والاجتماعي والفكري والثقافي والسلوكي في بنية المجتمع السعودي. اربع ملاحظات، رصدتها على عجل، كصدى سلبي نتيجة هطول المطر. الأولى، هي حالة التوقف المريب التي اصابتنا اثناء هطول المطر، إذ تعطلت تقريباً كل تفاصيل حياتنا، وأصبح لا حديث يعلو فوق صوت المطر. هذه الكارثة، اثبتت بما لا يدعو للشك بأننا نفتقر للتعدد والتنوع في الصور والفعاليات والتفاصيل التي تُثري حياتنا. لقد احتل المطر كل مساحات تفكيرنا ونقاشاتنا واهتماماتنا، تماماً كما لو كان الامر مجرد "فش خلق" كما يُقال. الثانية، هي حالة الكسل وعدم الرغبة في العمل والإنتاجية، وعدم الايمان الحقيقي بأهمية العلم والمعرفة، ولعل مظاهر الفرح والسعادة والتبريكات التي صاحبت تعليق الدراسة والإجازة من العمل، خير دليل على اننا قد نُفضل بعض الكوارث على الدراسة والعمل والتنمية. الثالثة، وهي أننا جميعاً بلا استثناء، لا نؤمن بمصطلح ادارة الكوارث والمخاطر، لذا فنحن لا نملك خططاً وقائية او استراتيجيات أولية، بل ننتظر حدوث المشكلة أو الكارثة، ثم نفكر في حلها، ولكن بعد فوات الاوان طبعاً. الرابعة، أن المطر كشف عن، جانب خفي في طبيعة الانسان السعودي، وهو قدرته الفائقة على صنع النكتة، حتى وإن كانت سوداء، وذلك بعكس الصورة النمطية التي عُرف بها، ككائن خشن يميل للجدية والغلظة. لقد حفل مهرجان المطر لهذا العام بالعديد من الصور والفيديوهات المضحكة والمبكية في آن معاً، وثقت حكايتنا المثيرة مع المطر. حكايتنا مع المطر، خاصة في هذا العام، بحاجة ماسة لان تُبحث وتُدرس على كافة الصعد والمستويات، لأنها قد تؤسس لحالة جديدة نتبناها جميعاً للحفاظ على وطننا من الاخطار والكوارث. لقد حرضنا المطر على التفكير بصوت عال، واستفزنا للبوح بالكثير من مشاكلنا وآلامنا وتحدياتنا، فشكراً للمطر، عدد ما هطل من قطرات وآهات..
مشاركة :