حتى لا تتكرر مأساة «أماندا» - فاضل العماني

  • 8/4/2013
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

نحن نعيش الأمس، رغم أننا في الالفية الثالثة من عمر المسيرة الإنسانية. ورغم أننا ننتمي لأمة، هي خير أمة اخرجت للناس، أمة أشرقت شمسها على العالم، كل العالم، علماً وفكراً وسماحة وتحضراً وتمدناً، ولكننا - بكل حزن وألم - لم نعد كذلك، لأننا ارتضينا أن نعيش على مجد الأمس، دون أن نتقدم خطوة واحدة للأمام.. منذ عقدين، وثورة الإنترنت التي تعصف بنا، لا تُريد أن تتوقف، بل هي تكبر ككرة ثلج، وتجتاح كل من يقف في طريقها، حتى سيطرت تقريباً على المشهد الإعلامي الجديد، بل وعموم المشهد الكوني بأكمله. ثورة في مجالات الاتصال والتواصل، وطفرة في مختلف الوسائل والوسائط. لقد استطاعت هذه الثورة الرقمية أن تُعيد تشكيل وصياغة وترتيب "البيت العالمي" الكبير، وأن تُلغي كل الموانع والحدود والحواجز، بل وتُدشن انطلاقة عالم كوني متناهي في الصغر، رغم أنه يتمدد ليُغطي العالم، كل العالم. لقد استطاعت هذه المعجزة الرقمية الفريدة أن تُحقق الكثير من التحولات الكبرى في شتى المجالات والقطاعات، وأن تُساهم في تغيير الكثير من المفاهيم والمصطلحات والأدبيات، وفق "متوالية هندسية" لا يُمكن وقف تقدمها أو تطورها، لأنها بكل بساطة، تعمل على مدار الثانية، بل وأقل من الثانية. كان لابد من هذه المقدمة البسيطة عن عالم الانترنت، هذا العالم المثير الذي هو أشبه بحاضنة رقمية أفرزت الكثير من البرامج والتطبيقات، بل والثقافات والسلوكيات، أحدها، بل أهمها هي مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت، ومنذ عدة سنوات، تُمارس دورها المثير في قيادة المشهد الاجتماعي، بعد ان كانت مجرد وسيلة اتصال. لقد بسطت هذه "المجالس" الافتراضية نفوذها في فكر ومزاج المجتمعات المختلفة كأسلوب حياة وشريك فاعل في كل المجالات والقطاعات والتفاصيل. مواقع التواصل الاجتماعي بكل ما تتمتع به من قدرات تقنية هائلة، ومن ترسانات ضخمة من الاجهزة والتطبيقات والبرامج، تقود المنظومة البشرية بمختلف اشكالها ومستوياتها. وكان لابد من هذا التوصيف الدقيق لخطورة وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر والواتس آب والكيك وغيرها، لكي أشرع في كتابة قصة "أماندا ميشيل تود"، هذه القصة الحزينة، بل المأساوية التي تحكي تفاصيل وقوع فتاة صغيرة، ضحية لمواقع التواصل الاجتماعي، هذا العالم الافتراضي الكبير الذي ننتمي له جميعاً. ترددت كثيراً، قبل أن أقرر كتابة هذه الحكاية المؤلمة، لأسباب انسانية وأخلاقية واجتماعيه، وأيضاً لعدم بث حالة من الذعر والخوف لدى اطفالنا وشبابنا الذين قد يمرون بهذه التجربة المريرة. أماندا، فتاة كندية جميلة، لم تتجاوز ال ربيعاً. دخلت برفقة صديقاتها إلى أحد مواقع التواصل الاجتماعي، والتقت بالكثير من الأشخاص، ودارت بينهم بعض الدردشات والرسائل، إلا أن أحدهم تودد لها كثيراً وأقام معها علاقة صداقة، سرعان ما تحولت إلى نزوة غرامية كاذبة، حيث طلب منها أن تُبرز بعض مفاتن جسدها. بعد سنة، راسلها شخص آخر، حصل على تلك الصور الفاضحة، وأخذ يبتزها ويُهددها بأنه سيقوم بإرسال تلك الصور المثيرة لكل افراد عائلتها وأصدقائها اذا هي لم تستجب لرغباته. في البداية، تجاهلت اماندا ذلك الشخص، ورفضت كل طلباته المشينة، الا أنه وبعد عدة أسابيع نفذ تهديده ونشر صورها على صفحات الفيس بوك وبعض المواقع الالكترونية، لدرجة أن الشرطة الكندية استجوبتها بسبب تلك الصور الفاضحة. لم تحتمل الفتاة الصغيرة هذه الصدمة الكبيرة، وأصيبت بحالة اكتئاب وانهيار عصبي، وأدخلت المستشفى أكثر من مرة، وأصبحت لا تُفارق المنزل، ولم تعد ترغب بالذهاب للمدرسة. انتقلت الاسرة لأكثر من مكان، والتحقت أماندا بأكثر من مدرسة، إلا أن فضيحة الصور تُلاحقها في كل مكان تذهب إليه. تعاطت المخدرات والكحول، وحاولت الانتحار أكثر من مرة. تعافت عدة مرات، إلا أن نظرات وتعليقات وإهانات زملائها في المدرسة وفي محيطها المجتمعي، فضلاً عن صورها الفاضحة التي تنتشر في كل المواقع الالكترونية، جعلتها تقرر أن تضع حداً لهذه الحياة التعيسة التي تعيشها. في العاشر من اكتوبر ، وبعد أن سردت حكايتها المؤلمة عبر اليوتيوب، وقد شاهد هذا المقطع الذي لم تتجاوز مدته دقائق، الملايين الذين تعاطفوا معها، ورغم كل عبارات التشجيع والدعم والتعاطف التي كتبها كل من شاهد ذلك المقطع الحزين، قررت أماندا أن تترك هذه الحياة التي عاشت فيها كل صنوف الاهانة والإساءة، حيث شنقت نفسها. تلك هي قصة الضحية أماندا، الصبية الكندية، وأغلب الظن بأنها - أي قصة أماندا - تتكرر كثيراً في حياتنا، طبعاً مع الفارق في بعض التفاصيل والاعتبارات. عزيزي القارئ، اعرف جيداً مدى تأثير هذه القصة المؤلمة على مشاعرك وأحاسيسك، اعرف ذلك جيداً، تماماً كمعرفتي بأنها قد تحدث لأي فتاة صغيرة تعيش بيننا، خاصة في ظل هذا الانفتاح الكبير لوسائل ووسائط الاتصال والتواصل، وكذلك بسبب الحياة الرتيبة والكئيبة والمملة التي نعيشها جميعاً، وخصوصاً الفئات العمرية الشابة ( ) التي تُمثل الاغلبية في مجتمعنا، وكذلك بسبب غياب ثقافة الحب والتسامح والحوار والاعتدال بين مختلف مكوناتنا وشرائحنا. لقد أصبحنا، بكل أسف، نعيش الوحدة فيما بيننا، تماماً كما لو كنا في جزر معزولة. الأب لا يعرف ماذا يحدث لأبنائه، والأم مشغولة بحياتها الخاصة، ولم يعد اي وجود حقيقي للعائلة. كذلك، الغياب الواضح للمؤسسات والمراكز العامة والخاصة التي تُعنى بالشباب، بل على العكس تماماً، تكثر "الدكاكين" الكريهة التي تُكرس الجمود والعنف والتهميش والازدراء. لقد غابت أو غُيّبت - لا فرق - مصادر الحياة الحقيقية التي تنشر الحب والبهجة والتسامح والتآخي وقبول الآخر، فهربنا جميعاً لتلك الحياة الافتراضية التي وقعنا في شراكها ومشاكلها. نحن السبب في كل ما يحدث لأطفالنا وشبابنا، بل ولنا جميعاً. نحن السبب، لأننا ما زلنا نعيش الماضوية بكل ادبياتها وثقافاتها وسلوكياتها. نعم، نحن نعيش الأمس، رغم أننا في الالفية الثالثة من عمر المسيرة الإنسانية. ورغم أننا ننتمي لأمة، هي خير أمة اخرجت للناس، أمة أشرقت شمسها على العالم، كل العالم، علماً وفكراً وسماحة وتحضراً وتمدناً، ولكننا - بكل حزن وألم - لم نعد كذلك، لأننا ارتضينا أن نعيش على مجد الأمس، دون أن نتقدم خطوة واحدة للأمام.. *ملاحظة: لا أنصح بمشاهدة هذا المقطع المؤلم الذي يحكي قصة أماندا، والتي سجلته قبل أن تشنق نفسها: http://www.youtube.com/watch?v=ng3F5CgLo8w

مشاركة :