أيهما أقرب الى المنطق: أن تكون القوة العسكرية هي رافعة الاقتصاد؟ أم أن يكون الاقتصاد هو رافعة القوة العسكرية؟ التجربة في إيران تأخذ بالمسار الأول. فهذا البلد يقيم مشاريع عسكرية، ومن بينها مشروعه النووي، تستهلك من الموارد ما كان يمكنه أن يحول إيران الى قوة اقتصادية ضخمة، وتاليا قوة عسكرية ضخمة أيضا. على امتداد أربعين عاما، ظلت إيران تصدر نحو ثلاثة ملايين برميل من النفط يوميا. وهي تملك صناعة حديد وصلب توفر اليوم نحو 20% من ميزانيتها. أما صادراتها الزراعية فإنها تتجاوز 7 ملايين طن سنويا، ويوفر القطاع الزراعي أكثر من 80 بالمئة من الاحتياجات الغذائية و20 بالمئة من حجم الوظائف، وتبلغ مساحة الأراضي التي تزرع القمح وحده 6 ملايين هكتار. وهناك موارد بشرية ضخمة أيضا، هي بحد ذاتها مصدر هائل للثروة بما تنتجه في مجالات العمل الأخرى. السعي لبناء قوة عسكرية، والتمدد الى الخارج، لم يستهلك كل تلك الثروة، ولكنه جعل إيران واحدة من أفقر من بلدان العالم. نصف سكان إيران يعيشون الآن تحت خط الفقر. وهناك ثلاثة ملايين عامل في البلاد يتقاضون ما يعادل 100 دولار في الشهر بينما يتطلب الخروج من دائرة الفقر 300 دولار شهريا. ومن أصل 82 مليون نسمة، أقر الناطق باسم حكومة طهران علي ربيعي مؤخرا بأن أكثر من 60 مليون إيراني بحاجة إلى مساعدات معيشية. وبحسب مركز أبحاث تابع للبرلمان الإيراني فان معدل البطالة في البلاد يبلغ 24% من مجموع القوة العاملة. أما التضخم فانه يبلغ مستويات فلكية كانت قد دعت السلطات الى حذف ثلاثة أصفار من قيمة العملة مرتين. وحتى ولو كانت القوة العسكرية مهمة، لهذا السبب أو ذاك، فالحقيقة هي أنه ما من بلد في العالم خاض حربا وانتصر فيها بشعب جائع. وللدول العربية تجربة مهمة، بالنظر الى قيمتها السياسية، هي أنها عندما عوّلت على بناء الجيوش قبل بناء الشعوب، فقد هزمت في الحرب مع إسرائيل مرة بعد مرة. ذات دهر طويل كان شعار “كل شيء من أجل المعركة” هو الموجه الرئيسي للموارد والتطلعات، فانتهينا الى أن خسرنا كل شيء ولم نكسب المعركة. إيران اليوم، تسير في هذا الاتجاه. ولا يحتاج المرء الى عبقرية ليستنتج أنها، حتى وإن تم رفع العقوبات عنها، فإنها سائرة في طريق الهزيمة مع شعبها قبل الآخرين. ليس لأن بلاليع تسريب الموارد على المشاريع العسكرية ستظل مفتوحة فحسب، بل لأن الهوّة الاقتصادية لاستئناف البناء واسعة أيضا، بسبب الخراب الذي حاق بالبنى التحتية للبلاد، فيما المشاغل الأيديولوجية والتدخلات الخارجية وصناعة المليشيات ستظل هي الأخرى مصدرا لصرف الانتباه عما هو أساسي. مصر تسير في الاتجاه المعاكس تماما. يملك هذا البلد جيشا قويا، هو في الواقع أقوى جيوش المنطقة ويحتل مرتبة متقدمة بين جيوش العالم. ولكن قوته لم تكن على الإطلاق إلا قوة منتجة. وهو ربما كان الجيش الوحيد في العالم الذي يدافع ويعمل. المقابلة الأخيرة التي أجرتها صحيفة “دي فيلت” الألمانية مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، أوجزت الكثير، وكشفت عن رؤية ناضجة لمصادر القوة. الصحيفة سألت عما إذا كانت مصر سوف تسعى لامتلاك قنبلة نووية إذا فشلت مفاوضات فيينا مع إيران. رد السيسي بضحكة أولا، واعتبر السؤال غريبا، قبل أن يقول: إن “القنبلة الذرية الحقيقية هي التقدم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. التقدم البشري، التقدم في الحرية، في الديمقراطية”. وطلب السيسي من محاوريه مشاهدة مقطع فيديو عن فقر سكان الريف في مصر، وقال: اسألني كيف يمكنني الجلوس هنا دون مساعدة هؤلاء الناس. وتسألني هل يجب أن نشتري أسلحة نووية! كنت أود أن تسألني كيف يمكنني العيش هنا دون تغيير واقع الفقر هذا. لا بد من الاعتراف، أن هذا كلام صادم حقا. إنه تعبير عن رؤية بصلابة الصخر، تقول إن الاقتصاد هو مصدر القوة العسكرية، وليس العكس. لو أن الشعار كان يقول: كل شيء من أجل التقدم والتنمية، ما كنا عرفنا ما عرفناه من الهزائم، ولا كنا تخلفنا عن الركب بهذه الدرجة. التقدم والتنمية، هي المعركة التي كان يجب كسبها أولا.
مشاركة :