يشكل "الإيمان بالقضاء والقدر" أحد أركان الإيمان الستة في العقيدة الإسلامية، والتي لا يكون الإنسان مسلماً حقًاً إلا بالتسليم بها. ولقد جاءت الأركان الستة، التي يشكل الإيمان بالقضاء والقدر ركنها السادس، بأدلة قطعية الثبوت والدلال، كما هو حديث عمر بن الخطاب الذي فيه: "قَال فأخبرني عن الإيمان؟ قَال أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره". عندما ابتدر المتكلمون المسلمون الخوض في مسألتي «الجبر والاختيار»، بوصفهما لازمتين من لوازم الحديث عن «الإيمان بالقضاء والقدر»، وجدوا أن الأدلة الشرعية فيهما متكافئة. إذ منها ما يدل على الجبر، ومنها ما يدل على الاختيار ولقد تبرز معضلة، أو إشكالية آتية من الفهم الأولي المباشر ل"القضاء والقدر"، بأن ذلك يعني أن الإنسان مُجْبَر على أفعاله وأعماله، وكل ما يأتي به ويذر. وهذه بالطبع مسألة شائكة وعويصة، خاض فيها علم الكلام الإسلامي طويلاً، من منطلق التساؤل: هل الإنسان مسير أم مخير؟ هل الإنسان حر في ما يأتي ويذر، أم أنه مجبر كالريشة في مهب الريح، كما قال أحدهم؟ كما خاضت فيه الفلسفة القديمة والحديثة تحت مسألة "مشكلة الشر في العالم". والخوض في هذه المسألة ليس مجرد ترف كلامي أو فلسفي فحسب، ذلك أنها ذات تأثير مباشر وخطير على مستوى نتائج أعمال الإنسان، ومسؤوليته القانونية والخلقية عنها. فإذا كان مجبراً على أفعاله، فليس مسؤولاً عن أعماله، لا قانونياً ولا خُلقياً، إذ المسؤولية تفترض حرية الاختيار، والعكس صحيح. عندما ابتدر المتكلمون المسلمون الخوض في مسألتي"الجبر والاختيار"، بوصفهما لازمتين من لوازم الحديث عن "الإيمان بالقضاء والقدر"، وجدوا أن الأدلة الشرعية فيهما متكافئة. إذ منها ما يدل على الجبر، ومنها ما يدل على الاختيار. ذلك أن المسلم يجد فيها ما يدل على أنه مجبر في كافة ما يأتي وما يذر من أفعاله، كما يجد فيها، من جهة أخرى، ما يدل على أنه حر مختار، يأتي أعماله بحرية، كما يترك بعضها الآخر بحرية أيضاً. ولم يجد المتكلمون، حين أعوزهم الحل والتوفيق، بداً من اللجوء إلى السلاح الأثير: سلاح التأويل، للخروج من معضلة تكافؤ الأدلة. بمعنى أن من قال بأن الإنسان حر مختار، وجد نفسه مضطراً إلى تأويل أدلة الجبر بما يتفق مع ما يؤمن به، ومن قال بأن الإنسان مجبر، وجد نفسه مضطراً إلى تأويل أدلة الاختيار بما يتفق مع رؤيته. وهكذا لم يستطع علم الكلام، رغم المحاولات والمجهودات الكبيرة التي بذلها المتكلمون، حل مشكلة تكافؤ الأدلة بين الجبر والاختيار، وتقرير ما إذا كان الإنسان مخيراً أو مسيرا. ولم يكن ثمة بد من انتظار مفكر من نوع آخر، ليحل الإشكال العويص، كما وصفه ابن رشد. جاء فيلسوف قرطبة ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي ليصف إشكالية (القضاء والقدر)، كما يقول في كتابه،(الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة)، بأنها "من أعوص المسائل الشرعية، وذلك لأنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وُجدتْ متعارضة، وكذلك حجج العقول". وهو لذلك، يسرد نماذج من تلك الأدلة المتعارضة، بادئاً بالأدلة التي يدل ظاهرها على أن الإنسان مجبور على ما يأتيه من أفعال، مثل قوله تعالى: "إنَّا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَاهُ بقَدَر"، وقوله تعالى: "وكل شيء عنده بمقدار"، وقوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير"، وقوله تعالى: "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد"، وقوله تعالى: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين"، وقوله تعالى: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". ثم يسرد في مقابلها الأدلة التي يدل ظاهرها على أن الإنسان حر في ما يباشر من أفعال وأقوال، وأن له، كما يقول، اكتساباً بأفعاله التي عليها يحاسب، مثل قوله تعالى: "أَوْ يُوبقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثير"، وقوله تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، وقوله تعالى: "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"، وقوله تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ منْ عنْد أَنْفُسكُمْ"، وقوله تعالى: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك". كما لا تخلو السنة النبوية أيضًا من أحاديث يوحي ظاهرها بالتكافؤ بين الجبر والاختيار. وهذا ما جعل ابن رشد يعرض أيضاً نماذج لأحاديث بهذا الشأن، فيقول" وكذلك تلفي الأحاديث في هذا متعارضة أيضا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خَلَقْتُ هؤلاء للجنة وبأعمال الجنة يعملون، وخلقت هؤلاء للنار وبأعمال أهل النار يعملون. فإن الحديث الأول يدل على أن سبب الكفر إنما هو المنشأ عليه، وأن الإيمان سببه جبلة الإنسان. وأما الحديث الثاني فيدل على أن المعصية والكفر مخلوقان لله، وأن العبد مجبور عليهما. ولذلك افترق المسلمون في هذا المعنى إلى فرقتين: فرقة اعتقدت أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة، وأن لمكان هذا،(أي لأن الإنسان مخير)، ترتب عليه(أي على الإنسان) العقاب والثواب، وهم المعتزلة. وفرقة اعتقدت نقيض هذا، وهو أن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور، وهم الجبرية". وعلى الرغم من محاولات المتكلمين حل هذه المعضلة، الآتية من تكافؤ أدلة الجبر والاختيار، ومن قبلهم ومن بعدهم، الفلسفة القديمة والحديثة تحت مسألة "مشكلة الشر في العالم"، إلا أنهم لم يصلوا إلى حل معقول، فتركوا الباب موارباً لمحاولات فكرية قادمة، وهي لحظة أتت مع مجيء فيلسوف قرطبة، الذي قدم حلاً طريفاً ومبتكراً ومعقولاً للإشكالية، حلاً لا أعتقد أن الفلسفة، قديمها وحديثها، ومعها علم الكلام، أو علم اللاهوت غير الإسلامي، قد استطاعت الإتيان بمثله. ولأهمية الحل الرشدي المبتكر، فقد رأيت أن أخصص الجزء القادم من المقال للحديث عنه. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net
مشاركة :