` تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عن مسألة "القضاء والقدر"، بوصفه الركن السادس من أركان الإيمان، كما أومأت إلى أن (القضاء والقدر) يوحي بظاهره أن الإنسان مسير مجبور على ما يأتي ويذر، كما وأشرت إلى خوض المتكلمين في الجواب عن إشكالية عويصة، كما يصفها ابن رشد، إشكالية نشأت في ظل محاولة تكييف معنى القضاء والقدر، وهي "هل الإنسان مسير أم مخير"، وأوردت كلام ابن رشد الذي استعرض فيه عدداً من الأدلة التي تتعارض في ما بينها ظاهرياً، ما بين موح منها بأن الإنسان مسير، وما بين موح بأنه مخير. واليوم أستعرض رؤية ابن رشد لحل هذه الإشكالية، والتي أوردها في كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة)، وهي رؤية متقدمة جداً، بل وحلّ جذري لهذه الإشكالية، فلقد برهن فيلسوف قرطبة على أن القضاء والقدر ليس إلا أحد أوجه اطراد سنن الطبيعة التي قال الله عنها: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا". أعتقد جازماً أنه لو قُيض لهذا الحل الرشدي المبتكر أن يسود في الفكر العربي الإسلامي، لما تأصلت فينا ثقافة التواكل والاستسلام السلبي، وتعليل كل ما يحدث للإنسان بالقضاء والقدر، تهرباً من المسؤولية. وهي ثقافة أدت حتى بلاعبي الكرة إلى تعليل خسارتهم للمباريات.. في البداية، يتساءل ابن رشد: "فإذا كان الأمر هكذا،(أي تعارض الأدلة ما بين الجبر والاختيار)، فكيف يُجمع بين هذا التعارض الذي يوجد في المسموع والمعقول"؟ ثم يجيب على تساؤله بقوله: "إن مقصد الشرع من طرحه مسألة القضاء والقدر من وجهي الجبر والاختيار، ليس هو تفريق هذين الاعتقادين (أي الجبر والاختيار)، وإنما مقصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة". ماهو هذا التوسط الذي يجمع بين الأدلة المتعارضة، والذي هو الحق، كما يصفه فيلسوف قرطبة؟ ينظر ابن رشد إلى الفعل الإنساني في الطبيعة على أنه معتمد في إتمامه على ثلاثة عناصر، هي على الترتيب: توفر الإرادة (وتعني وجود رغبة ما لدى الإنسان، لفعل شيء ما، أو لمباشرة حدث ما). توفر الأسباب الداخلية في الإنسان (وتعني أن يكون لدى الإنسان القدرة الفسيولوجية على مباشرة الحدث، أو القيام بالفعل أو العمل المراد). موافقة الفعل للأسباب الخارجية (وتعني أن الفعل الذي يريد الإنسان القيام به متوافق مع قوانين الطبيعة). وهذا يعني أن قيام الإنسان بفعل أو عمل، أيّاً يكن ذلك الفعل، إنما يعتمد على رغبته وقدرته من جهة، وعلى موافقة الفعل لسنن الطبيعة من جهة أخرى. ويشرح ابن رشد كيفية حدوث الفعل الإنساني على ضوء العناصر السابقة، فيشير إلى أن الإرادة الإنسانية إنما هي "شوق يحدث للإنسان عن تخيل شيء ما، أو تصديق بشيء ما، بسبب مؤثر خارجي". وهذا التصديق أو الشوق ليس من اختيار الإنسان، بل هو شيء يحدث من خارجه. ويمثل له ابن رشد بقوله: "إذا ورد علينا أمر مُشْتَهى من خارج، اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار فتحركنا إليه، وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب منه من خارج، كرهناه بالضرورة فهربنا منه". ومع ذلك، فرغبة الإنسان بعمل شيء ما، لا تكفي لإتمام الفعل، إذ لا بد مع ذلك من أن تكون الأسباب الداخلية في الإنسان، وتعني طاقته وقدرته التي قدّره الله عليها، قادرة على مباشرة الفعل، إذ يمكن أن يرغب الإنسان في أن يحمل صخرة كبيرة مثلاً، لكنه لا يملك القوة التي تساعده على ذلك. وتوفر الإرادة والقدرة لدى الإنسان لا يكفيان مع ذلك لإتمام الفعل، بل لابد من أن يكون الفعل نفسه متوافقاً مع قوانين الطبيعة. فإذا توافق الفعل مع قوانين الطبيعة، ووُجِدَت الإرادة والقدرة لدى الإنسان، تم الفعل. وهاهنا مثال بسيط يحدث في الطبيعة دائماً. فقد يشعر الإنسان بالحاجة إلى إشعال نار للتدفئة نتيجة شعوره بالبرد، (مؤثر خارجي أثّر على الإرادة، فجعلها تتحرك باتجاه إشعال النار). ومع توفر عنصر إرادة إشعال النار، لا بد من توفر عنصر القدرة، وهو أن يكون الإنسان قادراً على إشعال النار، بجمع الحطب مثلاً، وإشعال الثقاب فيه. ومع توفر عنصري الرغبة والقدرة، لا بد أيضاً من أن يكون إشعال النار وفق قانونها الطبيعي. فلو أشعلها مثلاً في ماء لم تشتعل، رغم توفر عنصري الإرادة والقدرة، لعدم توافق الفعل، وهو هنا إشعال النار، مع القانون الطبيعي، متمثلاً في طبيعة النار التي لا تشتعل في الماء. وهكذا بالتطبيق على الأشياء الأخرى، صغيرة كانت أم كبيرة. ينتقل ابن رشد، بعد ذلك إلى تكييف مسألة القضاء والقدر، انطلاقاً من مجموع العناصر الثلاثة للفعل الإنساني، فيشير إلى أنه "لما كانت الأسباب الخارجية، أو القوانين، أو السنن تجري على نظام محدود، وترتيب منضود، لا تخل في ذلك، بحسب ما قدَّرها بارئها عليها، (بمعنى: اطراد قوانين الطبيعة)، وأن الإرادة والأفعال الإنسانية لا تتم ولا توجد في الجملة إلا بموافقة القوانين والسنن الطبيعية الخارجية، فإن أفعال الإنسان إنما تجري هي الأخرى على نظام محدود. أي أنها تجري في أوقات محدودة ومقدار محدود. ولأن أفعالنا، كما يقول ابن رشد، مسبَّبَة عن قوانين الطبيعة، ولأنها أيضًا مرتبطة بتلك القوانين برباط عضوي وثيق لا تنفصم عراه، ولأن كل مسبَّب يحدث ضرورة عن أسباب محدودة مقدرة، فهو بالضرورة محدود ومقدر، فإن النتيجة الحتمية هي أننا لا نستطيع أن نأتي بأفعال، أو نباشر أموراً، أو نتعاطى أنشطة تتعارض مع قوانين الطبيعة، حتى لو ملكنا الإرادة وتخيلنا أن قدراتنا تؤهلنا لذلك". وهنا يصل فيلسوف قرطبة إلى النقطة المركزية في بحثه، وهي توضيح معنى القضاء والقدر، فيشير إلى أن ارتباط أفعال الإنسان الضروري مع سنن الطبيعة، من خلال عنصري الإرادة والقدرة، هو بعينه القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده. ويزيد فيلسوف قرطبة هذا الأمر إيضاحاً بقوله: "وإذا كان هذا كله كما وصفنا، فقد تبين لك كيف يكون لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابق. وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يُظَنُّ بها التعارض، وبهذا تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك". وأعتقد جازماً أنه لو قُيض لهذا الحل الرشدي المبتكر أن يسود في الفكر العربي الإسلامي، لما تأصلت فينا ثقافة التواكل والاستسلام السلبي، وتعليل كل ما يحدث للإنسان بالقضاء والقدر، تهرباً من المسؤولية. وهي ثقافة أدت حتى بلاعبي الكرة إلى تعليل خسارتهم للمباريات، أو إضاعتهم للأهداف، أو لضربات الجزاء، بأن الله لم يكتب لهم ذلك، في استسلام جمعي لتفسير سلبي لمعنى القضاء والقدر. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
مشاركة :