أنهى الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن جدلا طويلا دار داخل المجتمع الأمريكي منذ عقود طوال تجاه ما جرى للشعب الأرمني على يد الدولة العثمانية البائدة ، فقد جزم أمره وحسم قراره معترفا بأن الحدث المأساوي ، غير الإنساني ، هو إبادة جماعية من غير أدنى شك . قبل نحو عام وفي 24 أبريل نيسان من العام الماضي 2020 ، وخلال حملته الإنتخابية الرئاسية ، قطع بايدن وعدا لمؤيديه بإعتراف الولايات المتحدة بحقيقة ما جرى على يد الفرق الحميدية ، أي الميليشيات الكردية التابعة للسلطان عبد الحميد ، تلك الجماعات المعروفة بتعصبها الدوجمائي ، وقد أقنعهم الرجل الذي أطلق عليه لقب السلطان الأحمر ، من جراء الدماء التي تسبب في إهراقها ، بأن الأرمن كفار يستوجبون الذبح ، ولهذا تجاوز عدد ضحاياهم مليون ونصف المليون شهيد. يوما تلو الأخر ترتفع درجة سخونة المقت والغضب الأمريكيين من تركيا بسبب سياسات أردوغان ، فقبل قرار بايدن الأخير ، كان مائة عضو من الكونجرس ، على رأسهم ، آدم شيف ، الرئيس الديمقراطي للجنة المخابرات في مجلس النواب، قد بعثوا برسالة لبايدن يحثونه فيها على الوفاء بتعهده بالإعتراف بالإبادة خلال حملته ، وها قد فعلها سيد البيت الأبيض ، والذي أعتبر من قبل أن :" الصمت هو تواطؤ ، والسكون المخزي لحكومة الولايات المتحدة بشأن الحقيقة التاريخية للإبادة الجماعية للأرمن استمر مدة طويلة جدا ويجب أن ينتهي ". هل القرار الأمريكي بالفعل لا قيمة له ، وتركيا لا تعترف به ، ويمثل أكبر إهانة للشعب التركي على حد تعبير أردوغان ، في رده الغاضب ، وقد طاش عقله من جراء موقف الشعب والرئيس الأمريكي معا ؟ من الواضح أن بايدن رجل مستقبله وراءه وليس أمامه ، ولهذا فإن التلويح من قبل أنقرة بأن القرار يفسد العلاقات مع واشنطن لا يهدد قادم أيام بايدن بحال من الأحوال ، وربما جاء القرار ، وهو كذلك بالفعل ، ليعبر عن نفاد صبر الكونجرس والرئيس بايدن على أردوغان ، وبخاصة بعد العملية العسكرية التركية في شمال سوريا ، وإقدامه على شراء صواريخ " أس -400 "، ناهيك عن الدور الواضح والمفضوح لتشجيع الإرهاب الداعشي في المنطقة ، ومحاولة تعكير أمن وأمان حوض البحر الأبيض المتوسط ، والكثير مما تغلفه أضابير الإستخبارات الأمريكية . يقطع بايدن بأنه من غير الإعتراف الكامل بالإبادة الأرمنية ،وبدون إحياء ذكراها ، والحديث إلى ومع الأجيال القادمة عنها ، لن تتعلم البشرية دروس حقيقية ، وسيتكرر الألم وتستمر الوحشية . ما حذر منه بايدن جرى بالفعل بقية القرن العشرين ، فقد جرت إبادة لليهود على يد النازيين ، وتشابه الأمر في رواندا بين التوتسي والهوتو ، وتكررت المجازة في البوستة والهرسك ، وبدا وكأن البشرية المعاصرة مثل آل البربون في فرنسا ، لم يتعلموا أي درس من التاريخ ، ولم يتذكروا أي من أحداثه . على أن علامة الإستفهام التي يطرحها البعض :" ما فائدة قرار بايدن وهو غير ملزم ، ومعنى ذلك أنه لا يرتب أي إستحقاقات خطيرة على تركيا المعاصرة ، رغم أن القاصي والداني يعلم كيف أن أياديهم مخضبة بدماء الأرمن منذ مائة عام وتزيد ستة ؟ يمكن قراءة ردة فعل أردوغان ، والذي أصابته حالة من الغضب والعصبية بصورة غير طبيعية ، عبر أكثر من مسار ، فالمستقبل لا يحمل له دروب مفتوحة لقيام الأرمن حول العالم برفع قضايا جنائية ضد تركيا بصورتها الحالية ، أو الحصول على أحكام بتعويضات مليارية ، بالضبط كما فعلت إسرائيل مع ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، فقط ، بل يهدم على رأسه رؤيته غير الخلاقة التي يسعى من خلالها لإحياء إمبراطورية بائدة يراهن عليها ، وتصور له خيالاته وهواجسه أنه مبعوث العناية الإلهية للبعث العثمانلي الجديد . القرار الأمريكي مثل وسيمثل جرس إنذار لأردوغان بأن نهاية شططه على الأبواب ، لا سيما وأن الإرث سيئ السمعة الذي تركه له أجداده ، بات ماثلا أمام الأعين ، صباح مساء كل يوم ، ومن المنتظر أن تحذو دول أخرى عدة حول العالم حذو الرئيس بايدن ، وعلى الأغا العثمانلي حساب أكلاف الخسائر التي ستحل به مستقبلا ، وبخاصة بعد أن باتت تركيا محشورة في الزاوية ، ولا تستطيع مواجهة ضربات إقتصادية ، أمريكية أو أوربية ، وحكما روسية قادمة . سقط مشروع الوهم الذي روجه أردوغان في المنطقة ، ومن حوله جماعات أصولية عاثت ولا تزال فسادا كبيرا في الشرق الأوسط ، وكلاهما أستلهم تاريخ وتراث واحدة من أسوا التجارب الإستعمارية العنصرية التي عرفها العالم العربي بشكل خاص ، ودفع ثمنا إنسانيا فادحا لها . الكارثة المستقبلية الأخرى والتي ستسحق ما تبقى لأردوغان من حضور ، تتمثل في أن القرار الأمريكي ، سيشحذ من همم الأكراد لمحاسبة أردوغان على الإبادة المماثلة التي أرتكبها في حقهم ، وتحت زعم إزالة خطرهم على أمن بلاده . المثير في المشهد التركي ، أننا رأينا الجميع في الداخل هناك ، سواء حزب أردوغان ، أو الأحزاب التركية الأخرى المناوئة والمعارضة له ، تتفق على قلب رجل واحد تجاه رفض القرار الأمريكي ، ما يعني أن المشهد الداخلي ليس أكثر من توزيع أدوار ، كما أنه لا يوجد حمائم ولا صقور . أحقاد الماضي التركية لا تزال قائمة في نفوس الأتراك ، وخير دليل على صحة ما نقول به دعم تركيا أذربيجان في حربها ضد أرمينيا مؤخرا في أقليم ناغورونو قره باخ ، المتنازع عليه . حين يقرأ المرء الدراسة التفصيلية لمذابح الأرمن ، وكما أوردها الباحث الترك " تانر أكجام "، في مؤلفه المتميز ، المعنون " عمل مخز "، يدرك كيف أدى إنكار الإبادة الجماعية إلى جرح للأرمن ، وإلى أي حد ومد قد اضر بالأتراك . السؤال المهم قبل الإنصراف :" هل لدى تركيا – أردوغان أي رغبة أو نية في الإعتراف بجرمها الشنيع وطلب الصفح من الأرمن والعالم ، كما فعلت إلمانيا ؟ القاعدة الفقهية تخبرنا بأنه لا تغفر الذنوب ما لم يرد المسلوب ، لكن من الواضح أن أردوغان متشرنق في عالم الكراهية ، ما يفتح الباب للتساؤل التالي :" كيف يمكن معاقبة تركيا أدبيا وماديا ، وحتى يقطع المجتمع الدولي الطريق على الطغاة والمستبدين في قادم الأيام ؟
مشاركة :