ألكسي نافالني يلقّن العالم درساً مهماً!

  • 4/30/2021
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

يبقى نافالني الشخص الوحيد الذي يملك استراتيجية متماسكة للتعامل مع بوتين، فقد وَصَف خطته في رسالة خطّية أرسلها إلى الصحافية الروسية وصديقته المقرّبة يفغينيا ألباتس، بقوله: «سيكون كل شيء على ما يرام، حتى لو لم يحصل ذلك، يمكننا أن نواسي أنفسنا لأننا عشنا على الأقل حياة نزيهة». حين ركب ألكسي نافالني الطائرة للتوجه إلى موسكو في 17 يناير، حوّل حياته إلى استعارة بحد ذاتها، فهو وزوجته وجميع الناس كانوا يعرفون ما سيحصل، لا سيما أن الأحداث المرتقبة بدت واضحة أيضاً بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الذين شاهدوا فيديوهاته الوثائقية ومقابلاته الحذقة على متن الطائرة وانضموا إلى التظاهرات دعماً له، وحتى قادة روسيا، بما في ذلك الرئيس والدكتاتور الروسي فلاديمير بوتين، كانوا يعلمون ما سيحدث. لقد أخبر نافالني الجميع بأن قراره هو تجسيد حي للشجاعة. نافالني هو أهم زعيم معارِض في روسيا، وقد سافر من برلين بعدما أمضى أسابيع عدة في أحد المستشفيات هناك بعد ثاني أو ثالث محاولة لقتله، فقد نجا نافالني حين قررت منظمة ألمانية غير حكومية إرسال طائرة إلى مدينة «أومسك» لإخراجه من روسيا لأن غاز الأعصاب «نوفيتشوك» الذي استُعمِل لتسميمه لا يقتل الناس فوراً في جميع الحالات، ولأن المستشفى الروسي وافق على إخراجه على افتراض أنه لن يعود مطلقاً. سرعان ما تعافى نافالني على عكس جميع التوقعات، حتى أنه تحسّن لدرجة أن يظهر مجدداً في فيديو كان كفيلاً بزيادة شهرته مع فريق الباحثين التابع له، حيث كان نافالني يهاجم أعضاء النخبة الروسية في معظم الأوقات، فينتقد شبكات الفساد التي يديرونها ويسخر من أموالهم وأذواقهم، لكنه استهدف بوتين شخصياً في شهر يناير، فكشف تفاصيل حول قصر الدكتاتور الفخم على البحر الأسود، ولا يزال هذا الفيديو متداولاً حتى الآن، في حين يقبع نافالني في مستشفى السجن حيث أصبحت حياته مُهددة مجدداً. جميع المعلومات المتعلقة بتسميم نافالني ومحاكمته المزيفة وظروف اعتقاله الصعبة لم تعد سرية، وعلى غرار محاولات قتله السابقة، أصبحت هذه المعطيات علنية، إذ ترتكز محاولات بوتين المفرطة لتدمير أي خصم سياسي على منطق واضح: إذا أراد نافالني أن يثبت لمواطنيه معنى الشجاعة، يريد بوتين في المقابل أن يقنعهم بأن الشجاعة غير نافعة. هذا النوع من التصرفات ليس جديداً: يكمن منطق فاضح بالقدر نفسه وراء قرار بوتين غزو أوكرانيا المجاورة في عام 2014، ثم ضم شبه جزيرة القرم، ومتابعة المساعي لخوض حرب محدودة في شرق أوكرانيا، فهذه التحركات العسكرية العدائية تَلَت سلسلة من الاحتجاجات التي تنادي بالديمقراطية وتعارض الفساد، وكانت كفيلة بإقناع الدكتاتور الأوكراني الموالي لموسكو، فيكتور يانوكوفيتش، بالهرب من البلد، فكان ردّ بوتين على هذه التطورات مبنياً على نزعة قومية تقليدية من جهة وسياساته المحلية من جهة أخرى. لقد أراد بهذه الطريقة أن يثبت للأوكرانيين والروس معاً أن الديمقراطية تولّد العنف، وأن الاحتجاجات المناهضة للفساد محكومة بالفشل، وأن الشجاعة ميزة غير نافعة. عند فهم هذا المنطق وإدراك تمسّك بوتين بصموده الشخصي في السلطة، ستبدو معظم تصرفاته غير المبررة منطقية، إذ تسمح هذه العقلية أيضاً بتفسير السبب الذي يدفع الرئيس الروسي إلى محاولة تفكيك ما تبقى من وسائل إعلام مستقلة في روسيا تدريجاً، بما في ذلك قراره منع الصحافيين العاملين في «إذاعة أوروبا الحرة- إذاعة الحرية» من متابعة العمل في روسيا. تحظى هذه الإذاعة بتمويل أميركي لكنها تنشط بمعزل عن الحكومة الأميركية وقد عملت خارج موسكو طوال 30 سنة، إلى أن دعا بوريس يلتسين مراسليها للحضور غداة انهيار الاتحاد السوفياتي. قد يبدأ فرعها الروسي بالبث من الخارج مجدداً بعد فترة قصيرة، فقد عاد رئيس الإذاعة، جايمي فلاي، إلى منصبه حديثاً بعدما أجبرته إدارة ترامب على التنحي، وهو يقول إن هذه التطورات الأخيرة تنجم عن زيادة شعبية الصحافيين العاملين في الإذاعة وسط الجمهور الروسي. نزل مراسلوها إلى الشوارع لتغطية التظاهرات في بيلاروسيا في الصيف الماضي، ورافقوا نافالني خلال رحلة العودة إلى موسكو، وغطّوا مختلف جوانب محاكمته واعتقاله. حتى الفترة الأخيرة، لم يكن بوتين يزعج هذه الإذاعة دبلوماسياً، إذ تتحمل الولايات المتحدة في نهاية المطاف وجود وسائل إعلام روسية أكثر خضوعاً للمراقبة، لكن يبدو أن بوتين لم يعد يستطيع تحمّل العمل الصحافي الحقيقي اليوم. حتى أن الحاجة إلى الحفاظ على النظام تفسّر سبب حشد القوات والدبابات الروسية في محيط حدود أوكرانيا مجدداً، ومثلما كانت محاولة اغتيال نافالني علنية، تحصل هذه التجهيزات لخوض حرب جديدة في العلن أيضاً، حيث تنتشر صور قاذفات الصواريخ والدبابات الروسية في كل مكان عبر شبكة الإنترنت، وقد وصلت سفينتان حربيتان كبيرتان ومجموعة من السفن الأخرى إلى المنطقة أيضاً، واستناداً إلى مصادر مجلة «جاينز ديفانس ويكلي»، يشكّل حشد الجنود الروس في شبه جزيرة القرم وفي المساحات الواقعة في شرق الحدود الأوكرانية أكبر «عملية غير معلنة لإعادة نشر» القوات الروسية منذ غزو أوكرانيا السابق. يطرح مقدّمو البرامج الروسية التي يتكل عليها الكرملين لإطلاق حملاته الدعائية فكرة مشينة مفادها أن أوكرانيا تستعد للحرب بتحريض من «الأنغلو ساكسون». قال أحد المذيعين: «الغرب يستعد لتحرك لا يقلّ عن مستوى الحرب ضدنا»، حتى أن بوتين شخصياً ألقى خطاباً خطيراً منذ أيام حيث أعلن أن «منظّمي أي استفزازات تُهدد المصالح الأمنية الروسية الأساسية سيندمون على تصرفاتهم بطريقة غير مسبوقة»، ويبدو أن هذا المبدأ ينطبق على «الاستفزازات» الحقيقية والوهمية في آن. لا يتفق الخبراء بشؤون روسيا على طرفَي الأطلسي ولا الخبراء داخل روسيا نفسها حول معنى الحشد العسكري وحتمية حصول غزو وشيك، حيث يظن الكثيرون أن بوتين يخوض لعبة معينة بكل بساطة ويقوم باستعراض علني كي يثبت للأوكرانيين وجميع الأطراف الأخرى أنه مستعد لإطلاق غزو دموي آخر حين يشاء، كما يظن البعض أنه جدّي في هذه المساعي ويريد إنهاء المهمة التي بدأها في 2014 واحتلال معظم الأراضي في جنوب أوكرانيا وشرقها. قد تبدو هذه المقاربة عدائية ومتهورة، لكن ربما يملك بوتين أسباباً استراتيجية لأخذ هذا النوع من المجازفات: ستزيد سهولة الوصول إلى الطرقات وتأمين إمدادات المياه إلى شبه جزيرة القرم، وقد تخسر أوكرانيا جزءاً كبيراً من سواحلها وموانئها، وقد تسيطر روسيا على البحر الأسود. إذا نجح بوتين في فرض سيطرته وأطلق الأوكرانيون رداً واسعاً مثل شنّ حرب عصابات مطوّلة، قد يتمكن حينها من تحويل معظم مناطق أوكرانيا إلى أرض غير مستقرة وخارجة عن القانون ومتنازع عليها، مما يعني أنها ستتكل طوال الوقت على وجود القوات الروسية، على غرار «جمهورية دونيتسك الشعبية» التي تحكم جزءاً صغيراً من شرق أوكرانيا. لا تزال خرائط «نوفوروسيا» (أي الدولة الجديدة التي تفكر روسيا بإنشائها انطلاقاً من جنوب شرق أوكرانيا) قابعة داخل الكرملين على الأرجح وستكون جاهزة للاستعمال في أي لحظة، علماً أنها نُشرت للمرة الأولى في 2014. لكن قد لا يعرف بوتين بعد حقيقة ما يريده أو ينوي اتخاذ قراراته بناءً على تطور الأحداث. إذا مات نافالني وأطلق الروس احتجاجات حاشدة (نُظّم احتجاج عفوي قبل أيام في موسكو)، فقد يحتاج بوتين إلى شنّ الحرب لإلهائهم، وإذا مات نافالني وكان الرد الأميركي أكثر صرامة مما يتوقع، فقد يرغب بوتين في شن الحرب في أوكرانيا كي يثبت للرأي العام الروسي أنه لا يهتم برأي الولايات المتحدة. أو ربما يفضّل اختبار الرئيس الأميركي جو بايدن، بغض النظر عن مصير نافالني. كان بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب مقتنعين بأنهم يستطيعون تحسين علاقاتهم مع القادة الروس أكثر من أسلافهم، لكن يُعتبر بايدن أول رئيس لا يُخطط «لإعادة ضبط» العلاقات مع روسيا منذ الحرب الباردةن فقد سبق أن اعتبر الرئيس الأميركي بوتين «قاتلاً»، وقد يرغب الرئيس الروسي الذي يُركّز على شؤون بلده الداخلية في اختبار مدى استعداد بايدن لمواجهته على أرض الواقع. لم يعلن فريق بايدن بعد عن الرد الذي سيطلقه إزاء هذه التطورات، فربما تملك الولايات المتحدة خطة معينة لتأمين أسلحة دفاعية لأوكرانيا، لكن لم يكشف بايدن عنها بعد، حتى أنه لم يعلن أي نهج مُخطط له، باستثناء تكثيف العقوبات المفروضة، للرد على حملات التضليل الروسية في الولايات المتحدة وأوروبا، أو الاعتداءات الإلكترونية الروسية، أو إقدام روسيا على استعمال أساليب التسميم والاغتيال والتخريب محلياً وفي المملكة المتحدة، وجمهورية التشيك، وألمانيا، ودول أخرى. كذلك، لم يعلن بايدن بعد نيّته إطلاق أي شكل من الردود على المدى الطويل، أو سعيه إلى منع إنهاء أحد أهم الاستثمارات الروسية (خط أنابيب «نورد ستريم 2» الواقع تحت بحر البلطيق). حتى الآن، يبقى نافالني الشخص الوحيد الذي يملك استراتيجية متماسكة للتعامل مع بوتين، فقد وَصَف المعارِض الروسي خطته في رسالة خطّية أرسلها إلى الصحافية الروسية وصديقته المقرّبة يفغينيا ألباتس، فقال لها: «سيكون كل شيء على ما يرام، وحتى لو لم يحصل ذلك، يمكننا أن نواسي أنفسنا لأننا عشنا على الأقل حياة نزيهة». سبق أن أثبت نافالني أمام مواطنيه أن عيش حياة نزيهة داخل نظام سياسي مخادع أمر ممكن، حيث يجب أن يقتدي الآخرون بهذه الدعوة، تصمد الأنظمة الدكتاتورية عموماً لأن معظم الناس لا يبدون استعدادهم لدفع ثمن باهظ.

مشاركة :