تتفرد مدينة القاهرة بسحر خاص، تجذب إليها القلوب قبل العيون، عجز المؤخرون والمستشرقون على وصفها، فكل من يأتى إليها يأبى الرحيل، وكأنها «النداهة» التى تشدو بصوتها العذب لتجذب إليها كل من تخطو قدمه عليها، فهى مزيج من العبقرية والجنون، أما لياليها فلها مذاق خاص، التجوال في شوارعها حتى مطلع الفجر، فهى المدينة التى لا تنام. وعلى مدى شهر رمضان المبارك سنروى حكاية تلك المدينة الساحرة، أم المدن، «القاهرة» سنتحدث عن مساجدها، وكنائسها ومبانيها، وحكايات أشخاص عاشوا فيها، وغزاه وأحباب سنروى حكايتها منذ نشأتها. ففى صبيحة يوم الاحتفال، وهو اليوم الذى يذهب فيه السلطان لفتح الخليج، فيسبق السلطان نحو ١٠آلاف رجل، يسيرون في تجمعات كل مائة رجل، وأمامهم الموسيقيون ينفخون في الأبواق، ويضربون الطبل والمزمار، ويسر خلفهم أفواج الجيش وفرقة، حيث يبدأ الموكب من قصر السلطان حتى رأس الخليج. حيث تأتى الخيول المسرجة بسروج مذهبة، ويليها الجمال المحملة بالمهود والمراقد، وبعدها البغال المحملة بالعماريات. ويسير السلطان تحت مظلة راكبًا حصانًا، وعلى رأسه عمامة مذهبة مرصعة، وعليها حلة قيمتها ١٠ آلاف دينار ذهبى مغربي، أما المظلة فهى مرصعة ومكللة بالذهب والجواهر، ولا يكون مع السلطان إلا فارس غير حارس المظلة، ويكون على يمينه وعلى يساره مجموعة من الخدم، الذين يحملون المجامر ويحرقون العنبر والعود. وبعد موكب السلطان يأتى الوزير مع قاضى القضاة في صحبة فوج كبير من أهل العلم وأركان الدولة، وحينما يصل السلطان إلى الخليج ينتظر قرابة الساعة حتى يصل باقى الموكب ويقومون بتسليمه مزراقًا ليضرب به على رأس سد الخليج، وبعدها يقومون الرجال بهدمه بالمعاول والفؤوس والمخارق حتى ينساب الماء والذى يندفع بسرعة في الخليج. وفى هذا اليوم كان يخرج جميع سكان مصر والقاهرة لمشاهدة فتح الخليج، وكان يقام فيه جميع أنواع الألعاب الشعبية العجيبة، كما كان يتم إطلاق السفن في الخليج، والتى كانت تحمل عليها مجموعة من «الخرس» والذى كانوا يتفاءلون بنزولهم الخليج، وكان السلطان يتصدق عليهم في هذا اليوم. فكان للسلطان ٢١ سفينة، وقد تم عمل لها أحواض خاصة بالقرب من القصر وكانت تلك الأحواض واسعة مثل اتساع الميادين، وكان طول كل سفينة نحو خمسين ذراعًا وعرضها عشرون ذراعًا وكانت كلها مزينة بالذهب والفضة والجواهر والديباج، وكانت هذه السفن كلها مربوطة في الحوض، في أغلب الوقت. ففى يوم كسر الخليج أو وفاء النيل، كان يقام احتفال كبير ومهيب ويخرج فيه الخليفة مرتديا ثوبا من حرير مزركش بالذهب ويسير معه عشرة آلاف فارس على خيول مسرجة ومذهبة وتتبعهم جمال مزينة ويشارك معهم موظفو الدولة والشعراء والعلماء والأمراء، وكان ينشد الشعراء أشعارهم، كما كان يقام على شاطئ النيل سرادقات بها مختلف أنواع الأطعمة ثم يرجع الخليفة إلى القصر. ويُعد عيد الخليج، هو إعادة تدوير للاحتفال بعيد وفاء النيل عند المصريين القدماء، فعلى مر التاريخ لعب النيل دورا كبيرا في حياة المصريين. ففى مصر القديمة قدس النيل باعتباره مصدر الحياة والخير في مصر، وكانوا يعتقدون أن فيضان النيل على أرض مصر كل سنة ينبت الزرع. ويصف «ابن إياس» إحدى ليالى القاهرة خلال «عيد الخليج» في العصر المملوكى قائلًا: «في اإحدى ليالى القاهرة التى خرجت فيها دهبية سلطان مصر وعامت من بولاق وهى متزينة بالورد والأعلام واستقبلوها الأمراء بالطبل والمزامير عند مقياس فيضان النيل، فهى ليلة من ليالى القاهرة التى لا تنسى «من بر مصر ومقياس يقابله.. كان التقابل بين النور والنور».
مشاركة :